مقالات

ما بين فنزويلا وأستراليا والشرق الأوسط .. كيف كشفت لحظة إنسانية واحدة مخططاً دولياً كان يُطبخ في الخفاء

✍️ يوحنا عزمي

دولة قريبة جدًا من فنزويلا فتحت مطاراتها أمام الطيران الحربي الأمريكي، وفي التوقيت نفسه تقريبًا بدأت تسريبات مؤكدة من الصحافة العبرية عن نية إسرائيل تنفيذ عمليات عسكرية واسعة في الشرق الأوسط، وبين الخبرين دول في خيط واضح، لكن الغريب إن الخيط ده بيمر من مكان بعيد خالص .. من أستراليا ، وتحديدًا من الهجوم اللي استهدف تجمعاً يهودياً هناك. لو حطيت الأحداث جنب بعضها خلال الـ 48 ساعة اللي فاتت ، هتكتشف إن اللي بيحصل مش عشوائي ، وإن في سيناريو كبير بيتطبخ على نار هادية، وكل خطوة فيه محسوبة بدقة.

القصة بتبدأ من الكاريبي ، من جزر ترينيداد وتوباجو ، الدولة الصغيرة اللي موقعها الجغرافي يخليها أقرب نقطة مراقبة مباشرة على فنزويلا. تقارير دولية موثوقة زي رويترز والجارديان كشفت إن الحكومة هناك سمحت للولايات المتحدة باستخدام مطاراتها في عمليات عسكرية ولوجيستية. قبل الخبر ده بأيام ، كان فيه رادار أمريكي متطور تم تثبيته في جزيرة توباجو نفسها ، ومعاه وجود فعلي لقوات من مشاة البحرية الأمريكية على الأرض.

التبرير الرسمي كان “مكافحة الجريمة”، لكن اللي فاهم في الاستراتيجيات العسكرية يعرف إنك لما تحط رادار وتفتح مطارات وتدخل قوات ، فأنت بتبني منصة جاهزة لأي تحرك عسكري محتمل ، خصوصًا لما تكون على بعد كيلومترات معدودة من دولة مصنفة خصم استراتيجي.

أهمية فنزويلا هنا مش سياسية بس ، دي اقتصادية وجيوسياسية من العيار التقيل. الدولة دي بتمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، حوالي 303 مليار برميل، يعني ما يقرب من 17% من احتياطي النفط العالمي، أكتر من السعودية وكندا وإيران مجتمعين. المشكلة بالنسبة لواشنطن مش في وجود النفط ، المشكلة إن النفط ده خارج سيطرتها ، وإن الجزء الأكبر من صادرات فنزويلا رايح للصين ، وإن روسيا لاعب أساسي وحليف مباشر لكاراكاس. بمعنى أبسط : نفوذ صيني روسي متغلغل في الحديقة الخلفية لأمريكا.

ومن هنا ، أي قراءة هادئة للمشهد هتفهمك إن الولايات المتحدة بتتحرك دلوقتي وهي حاطة في حسابها احتمال انفجار كبير في الشرق الأوسط خلال أسابيع أو شهور قليلة. أي حرب واسعة هناك هتولع أسعار الطاقة عالمياً ، وساعتها السيطرة أو على الأقل تأمين مصدر نفطي ضخم في نصف الكرة الغربي مش رفاهية ، ده خط أمان استراتيجي. وده يفسر التصعيد المفاجئ ضد نيكولاس مادورو، من عقوبات أشد، لملاحقة قانونية، وصولًا لمصادرة ناقلة نفط فنزويلية والاستيلاء عليها بشكل علني تحت غطاء “مكافحة تهريب المخدرات”.

في نفس التوقيت تقريباً ، كانت إسرائيل بتسرب عبر صحافتها إن في استعدادات غير مسبوقة لتوسيع المواجهة مع حزب الله ، وإن خيار “الحل النهائي” مطروح بقوة، مش بس في جنوب لبنان ، لكن كمان داخل الأراضي السورية. الحديث مش عن ضربات محدودة ، لكن عن إعادة تشكيل مسرح العمليات بالكامل. مصادر عبرية قالت صراحة إن تل أبيب شايفة إن في نافذة زمنية لازم تتحرك خلالها قبل ما التوازنات الإقليمية تتغير أكتر، وقبل ما ملفات أكبر تتفجر، خصوصًا مع إيران.

وجود المبعوث الأمريكي في تل أبيب في التوقيت ده مش تفصيلة عابرة. تزامن الزيارة مع تسريبات عن “تفاهمات” أمريكية إسرائيلية تسمح لإسرائيل بضرب ما تسميه “التهديدات” في سوريا ، معناه إن الضوء الأصفر اتحول لأخضر. أي تصعيد كبير في لبنان أو سوريا هيشد أنظار العالم فورًا ، الإعلام ، الأسواق ، الدبلوماسية ، وكل ده هيترجم مباشرة لارتفاعات حادة في أسعار النفط، وهنا الصورة بتكمل : أمريكا بتأمن نفسها طاقياً ، وإسرائيل بتجهز ميدانياً.

وسط المشهد المعقد ده ، حصل الهجوم في أستراليا. احتفال ديني يهودي على شاطئ بونداي في سيدني،  حوالي ألف شخص ، وفجأة مسلحين يفتحوا النار بشكل عشوائي وكثيف ، يسقط 16 قتيلًا ويصاب العشرات في دقائق. الحدث في حد ذاته صادم ، لكن الأغرب كان اللي حصل بعده مباشرة. الماكينة الإعلامية الصهيونية اشتغلت بسرعة لافتة، تصريحات جاهزة ، خطاب متكامل عن تصاعد “معاداة السامية”، ربط مباشر بالإسلام ، إتهام للحكومة الأسترالية بالتقصير ، واستدعاء فوري لخطاب “نحن ضد هم”. كل ده حصل قبل ما التحقيقات تبدأ أصلًا ، وكأن السيناريو مكتوب مسبقًا.

الهدف كان واضح : خلق مناخ عاطفي وأخلاقي عالمي يسهّل تبرير أي تصعيد عسكري قادم ضد العرب أو المسلمين ، وتصويره كدفاع عن النفس في مواجهة “إرهاب ديني”. لكن اللي حصل بعد كده قلب الطاولة بالكامل. وسط الذعر والفوضى ، رجل بسيط اسمه أحمد الأحمد ، سوري الأصل، أسترالي الجنسية ، صاحب محل فاكهة، لا عسكري ولا أمني، قرر يعمل عكس المتوقع. استخدم السيارات ساتراً ، اندفع نحو أحد المسلحين ، اشتبك معاه ، اتصاب برصاصتين في ذراعه ، لكنه قدر ينتزع السلاح ويشل الهجوم قبل وصول الشرطة.

اللحظة دي اتصورت ، وانتشرت عالمياً في ساعات. فجأة، السردية اللي كانت بتتجه لترسيخ صراع ديني اتكسرت. بدل صورة “المسلم القاتل”، ظهر المسلم المنقذ. إنسان تحرك بدافع إنساني خالص، من غير ما يسأل الضحايا عن دينهم  أو هويتهم. ده وضع قيادات إسرائيلية في مأزق حقيقي، خصوصًا بعد تصريحات عدائية سابقة. نتنياهو نفسه اضطر يتراجع عن رواية أولية قالت إن المنقذ “يهودي”، واعترف لاحقًا إن اللي أنقذ اليهود كان “مسلماً شجاعاً”.

أهمية الحدث هنا مش أخلاقية أو إنسانية بس ، لكنها استراتيجية. لأنه ضرب في قلب السردية اللي كان بيتم تجهيزها لتبرير مرحلة جديدة من التصعيد. القصة ما بقتش “مسلمين يقتلون اليهود”، لكن “مسلم ينقذ اليهود”. ضربة واحدة كفيلة بتعطيل ماكينة دعائية كاملة. وعلشان كده، ظهرت تسريبات بتتكلم عن إن اسم أحد منفذي الهجوم كان محل بحث في تل أبيب قبل الحادث بساعات ، ما يفتح الباب لسيناريوهات أخطر ، سواء معرفة مسبقة أو استعداد للاستغلال الإعلامي على أقل تقدير.

الخلاصة إننا قدام ثلاث دوائر بتتقاطع في نقطة واحدة: الولايات المتحدة بتأمن مصادر الطاقة تحسباً لانفجار إقليمي كبير ، إسرائيل بتستعد لتحركات عسكرية واسعة وتحتاج غطاءً أخلاقيًا وإعلاميًا، وحادث أستراليا كان ممكن يكون قطعة محورية في الغطاء ده ، لولا تصرف إنساني فردي عطل الحسابات كلها. لا دولة ولا جيش ، مجرد إنسان قرر ينقذ ناس بتموت قدامه. وهنا المعنى الأعمق : مهما كانت قوة التخطيط والمكر ، دايمًا في لحظة صغيرة غير متوقعة قادرة تقلب المشهد بالكامل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!