✍️ يوحنا عزمي
في الرواية الصهيونية الجاهزة دائماً، ثمة قالب لا يتغير مهما تبدلت الوقائع أو تكشفت الحقائق: الإرهابي مسلم بالضرورة، والبطل يهودي حتماً ، وكل ما يخرج عن هذا الإطار يُعد خللاً يجب طمسه أو تجاهله أو إعادة تدويره بما يخدم السردية ذاتها.
وفي لحظة مشحونة درامياً ومشحونة سياسياً في آن واحد، لم يتردد بنيامين نتنياهو في اقتناص حادث الهجوم الدموي على المحتفلين بعيد الحانوكاه في منطقة بوندي بمدينة سيدني الأسترالية ، ليحوله فورًا إلى مادة دعائية جاهزة تُضاف إلى سجل “معاداة السامية”، تلك الفزاعة التي يجيد الكيان الصهيوني استخدامها في كل زمان ومكان، وبلا كلل أو ملل ، كلما احتاج إلى تبرير سياساته أو ابتزاز خصومه أو إحراج من يخرج عن بيت الطاعة الغربي.
استثمر نتنياهو اللحظة بأقصى ما يستطيع ، فأطلق خطاباً غاضباً ومشحوناً ، لم يكتفِ فيه بإدانة الهجوم بوصفه عملًا إرهابياً ، بل حمله دلالات سياسية أوسع ، وصب جام غضبه على قادة دول اتهمهم ضمنياً بتشجيع “الإرهاب” عبر مواقفهم المتخاذلة ، في إشارة غير خفية إلى رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، وأمثاله من الزعماء الذين تجرأوا – ولو رمزياً – على الإعتراف بالدولة الفلسطينية، وكأن هذا الإعتراف بات في العقل الصهيوني جريمة توازي إطلاق الرصاص على المدنيين.
لكن نشوة الخطاب ، وتجلي “اللحظة البطولية” كما تخيلها نتنياهو، دفعته إلى تجاوز الوقائع قبل التحقق منها، فاندفع في الإشادة العلنية بما أسماه “شجاعة البطل اليهودي” الذي سيطر على أحد المسلحين ، وجرده من سلاحه، وأنقذ حياة عشرات الأشخاص. وكان يستند في ذلك إلى مشاهد مصورة انتشرت على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تُظهر رجلًا ينقض من الخلف على مسلح ، وينزع البندقية من يديه العاريتين ، ثم يشل حركته ويمنعه من مواصلة إطلاق النار، في لحظة خاطفة حبست أنفاس من شاهدوها.
وبعنصريته المتأصلة ، افترض نتنياهو أن فعلًا بطولياً كهذا لا يمكن أن يصدر إلا عن يهودي ، وكأن الشجاعة حكر عرقي أو ديني ، لا قيمة إنسانية عامة. لم يكلف نفسه عناء التريث، أو سؤال مستشاريه ، أو إنتظار تقارير أجهزته الاستخباراتية التي يُفترض أنها لا تغفل عن صغيرة ولا كبيرة، بل سارع إلى تثبيت الرواية التي تخدمه سياسياً وإيديولوجياً. لم يخطر بباله حتى إحتمال بسيط ، أن يكون الرجل أسترالياً مسيحياً أو إنساناً عادياً من سكان المنطقة ، تحرك بدافع إنساني صرف لإنقاذ الأبرياء ووقف جريمة مكتملة الأركان.
وجاءت الصدمة مضاعفة حين كشفت السلطات الأسترالية الحقيقة كاملة : “البطل” ليس يهودياً ، بل مواطن أسترالي مسلم يُدعى أحمد الأحمد ، من أصل أفغاني ، وأب لطفلين. رجل لا يملك أي خبرة سابقة في التعامل مع الأسلحة، ومع ذلك لم يتردد في مواجهة الخطر ، فدفع ثمن شجاعته بإصابته برصاصتين ، إحداهما في الذراع والأخرى في الكتف، قبل أن يُنقل إلى المستشفى ويخضع لجراحة عاجلة.
هكذا انهارت الرواية الصهيونية عند أول اختبار حقيقي للواقع، لا بسبب تحليل معقد أو تحقيق صحفي عميق، بل بسبب اسم وهوية لم تنسجما مع الصورة النمطية المراد تسويقها.
المشهد بكل تفاصيله وثقته كاميرات المراقبة ، ووصفه رئيس وزراء مقاطعة نيو ساوث ويلز ، كريس مينز ، بأنه مشهد استثنائي لم ير مثله في حياته ، مخاطباً أحمد الأحمد بكلمات واضحة لا لبس فيها ، مؤكدًا أن هناك الكثير من الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة تلك الليلة بفضل شجاعته.
أحمد ، صاحب متجر فواكه في منطقة ساذرلاند جنوب سيدني ، تحول في لحظة إلى رمز إنساني خالص ، بعيدًا عن كل التصنيفات المسبقة التي تحاول حصر البطولة في دين أو عرق.
في المقابل ، لم ينتظر الإعلام العبري طويلًا ليؤدي دوره التقليدي ، فبادر منذ اللحظات الأولى إلى نقل تصريحات لمسؤولين إسرائيليين تتهم إيران بالوقوف خلف الهجوم، قبل أن تتضح أي معالم رسمية للتحقيق.
وتسرع كذلك في تداول اسم أحد المنفذين الذين بقوا على قيد الحياة ، بوصفه باكستاني الأصل ، في محاولة مبكرة لتثبيت هوية “المسلم الإرهابي”، حتى قبل أن تعلن السلطات الأسترالية أي معلومات مؤكدة. المهم ، كما يبدو ، ليس الحقيقة ، بل أن يظل الجاني من تلك “البؤرة الإرهابية” الجاهزة في المخيال الصهيوني.
انتظرت طويلًا، على أمل أن تقوم وسائل الإعلام الصهيونية، داخل إسرائيل وخارجها ، التي تنافست على نقل خطاب نتنياهو والترويج له، بتصحيح المعلومة الفادحة التي روجها عن “البطل اليهودي”. انتظرت أن أجد اسم أحمد الأحمد في تقاريرهم ، ولو على استحياء ، اعترافاً بالواقع أو احتراماً لأبسط قواعد المهنية. لكن حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يذكر أي موقع تابع لصحيفة عبرية معروفة اسمه، وسط سيل من التقارير والتحليلات ومقالات الرأي الغاضبة التي تُحدّث على مدار الساعة، وكأن البطولة حين تأتي من مسلم، تصبح تفصيلًا مزعجاً يجب دفنه ، لا حقيقة تستحق أن تُروى.




