مقالات

حين يتكلم الخوف بلغة المعدن : لماذا أصبح الذهب مرآة إنهيار الثقة في النظام العالمي؟

✍️ يوحنا عزمي

مصير الذهب لم يعد يُفهم اليوم بالمنطق التقليدي الذي يحصر حركته في العرض والطلب أو أسعار الفائدة أو حتى مضاربات الأسواق ، لأن من ينظر إلى الذهب بهذه الزاوية فقط يرى السطح ولا يرى العمق.

الذهب لم يكن يومًا مجرد معدن يُقاس بالجرامات، بل كان دائمًا لغة صامتة تتحدث بها الدول حين يختل ميزان الثقة ويبدأ القلق في التمدد داخل النظام العالمي. الذهب في جوهره لا يتحرك، الذي يتحرك فعليًا هو البشر، هو مستوى الخوف ، ودرجة الثقة ، وحالة اليقين. كل مرة يهتز فيها النظام الدولي ، لا يمكن القول إن الذهب “يرتفع” بالمعنى التقليدي، بل الأدق أنه يُستدعى، وكأن العالم يصوت بشكل جماعي ضد الثقة في كل ما هو ورقي أو قابل للتسييس. صعود الذهب في هذه اللحظات ليس حماساً استثماريًا، بل إعلان عدم ثقة.

السبب الحقيقي وراء كسر الذهب لأرقام قياسية في الفترة الأخيرة لا يرتبط بأزمة واحدة أو حدث مفاجئ، بل بدخول العالم مرحلة شاملة من إنعدام اليقين. حرب أوكرانيا لم تُغلق ، والشرق الأوسط يقف على حافة الاشتعال الدائم، وملف تايوان ما زال مفتوحًا على كل الاحتمالات، والدولار نفسه بات تحت ضغط سياسي غير مسبوق ، بينما وصلت الديون الأمريكية إلى مستويات تاريخية، والبنوك المركزية تبدو مرتبكة أكثر من أي وقت مضى.

هذه ليست صدمة عابرة ، بل تراكم أزمات فوق أزمات، والذهب تاريخياً لا يتغذى على الصدمات السريعة بقدر ما يزدهر في مناخ التراكم البطيء للقلق ، حين يشعر العالم أن المستقبل لم يعد واضح الملامح.

الكثيرون يركزون في تحليلهم لسوق الذهب على المضاربين والصناديق الاستثمارية والمستثمرين الأفراد ، لكن اللاعب الأخطر والأكثر تأثيرًا يظل البنوك المركزية. خلال العامين الأخيرين ، اشترت الصين الذهب بوتيرة غير مسبوقة، وواصلت روسيا التكديس، ولحقت بها تركيا والهند، وحتى دول أصغر بدأت تدخل على الخط. هذا السلوك ليس صدفة ولا رغبة في الربح السريع ، بل تعبير عن إدراك عميق بأن الذهب أصل بلا توقيع سياسي، لا يخضع لعقوبات، ولا يمكن تجميده بقرار ، ولا يتحول إلى أداة ضغط في لحظة صراع. هو تحوط صريح ضد استخدام النظام المالي الغربي كسلاح.

العلاقة التاريخية بين الدولار والذهب تعرضت هي الأخرى لتصدع نادر. في السابق كان ارتفاع الدولار يعني تلقائياً ضغطًا على الذهب ، لكن ما يحدث الآن أن الاثنين يصعدان أحيانًا معًا، وهو خلل لا يظهر إلا عندما يصبح النظام نفسه موضع شك.

السوق في هذه الحالة يرسل رسالة شديدة الوضوح : نحن نحتاج الدولار الآن لإدارة اللحظة، لكننا لا نثق به على المدى الطويل. وهذا أخطر وضع يمكن أن تصل إليه أي عملة احتياط عالمية، حين تبقى مستخدمة لكنها لم تعد مطمئنة.

السؤال المتكرر حول ما إذا كان الذهب قد دخل فقاعة يبدو في ظاهره منطقيًا، لكنه في حقيقته مبسط أكثر مما ينبغي. الذهب يدخل الفقاعات عادة في أوقات التفاؤل ، والنمو القوي، وتراجع المخاطر، وهي شروط غائبة تمامًا عن المشهد الحالي. ما يحدث اليوم ليس فقاعة، بل إعادة تسعير شاملة، ليس للذهب كمعدن، بل للعالم نفسه، لقيمة الاستقرار، ولثمن الثقة المفقودة.

إذا نظرنا إلى السيناريوهات المحتملة بواقعية باردة ، نجد أن سيناريو الهدوء العالمي يظل ضعيف الاحتمال، وحتى لو حدث فلن يؤدي إلى انهيار الذهب، بل إلى تباطؤ أو تصحيح محدود. السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار التوتر المزمن، حيث يحافظ الذهب على مستويات مرتفعة مع صعود بطيء وتصحيحات قصيرة.

أما السيناريو الثالث ، وهو الانفجار الجيوسياسي الواسع، فيظل ممكنًا ، وحينها قد نشهد قفزات غير منطقية في الأسعار، واختفاء الذهب الفعلي من الأسواق، واضطرابًا واسعًا في المنظومة المالية. اللافت أن أيًا من هذه السيناريوهات لا يتحدث عن نهاية عصر الذهب.

الحقيقة التي لا يحب كثيرون الاعتراف بها أن الذهب لم يعد ملاذًا للفرد فقط ، بل تحول إلى بوليصة تأمين بين الدول نفسها. وعندما تبدأ الدول في التعامل بهذه العقلية، فهذا مؤشر على دخول العالم مرحلة طويلة من انعدام الثقة المتبادلة، مرحلة لا تُدار فيها العلاقات بالقواعد القديمة وحدها.

في الخلاصة، الذهب لن ينفجر فجأة، ولن ينهار فجأة، لكنه سيفعل شيئًا أخطر وأكثر دلالة، سيواصل الصعود بهدوء لأن العالم ببساطة عاجز عن الهدوء. من ينتظر قاعاً مثالياً أو قمة نهائية لا يزال يتعامل مع الواقع وكأنه دورة اقتصادية عادية، بينما الحقيقة أننا نعيش مرحلة انتقال نظام عالمي كامل. وفي مثل هذه المراحل، قد لا يكون الذهب بطل القصة، لكنه دائمًا الناجي الأخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!