✍️ بقلم المستشارة : هايدي إيليا
بين خطاب اجتماعي يرفع شعار “الخصوصية الأسرية”، وخطاب قانوني يتخوف من اتهامه بهدم كيان الأسرة ، تقف المرأة في قلب معادلة شديدة التعقيد. معادلة تُقدم فيها الخصوصية أحيانًا بوصفها قيمة عليا ، بينما تتحول عملياً إلى جدار صامت يحجب العنف ويؤجل العدالة.
قراءة مقارنة بين القانونين المصري والأمريكي تكشف فجوة عميقة في الفلسفة القانونية ، لا في النصوص فقط ، بل في زاوية النظر إلى المرأة ذاتها : هل هي طرف يُطالب بالتحمل، أم إنسان تُقدم حمايته على أي اعتبار آخر؟
العنف الأسري لا يمكن اختزاله في كونه تصرفًا فردياً عابراً أو خلافاً زوجياً محدود الأثر ، بل هو ظاهرة قانونية واجتماعية تعكس طبيعة العلاقة بين الدولة والحيز الخاص للأسرة. ففي الوقت الذي تُصور فيه الأسرة في كثير من النظم القانونية باعتبارها مساحة “مقدسة” محدودة التدخل ، تتحول هذه القداسة عند وقوع العنف إلى عبء ثقيل يُلقى على كاهل المرأة ، فيُقيد حقها في الحماية ويُؤخر وصولها إلى الإنصاف.
أولًا : العنف الأسري في الإطار القانوني المقارن
في الفقه القانوني الحديث ، لم يعد العنف داخل الأسرة شأنا داخلياً مغلقاً ، بل أصبح يُنظر إليه بوصفه اعتداءً صريحاً على السلامة الجسدية والنفسية ، وانتهاكًاً مباشرًا للكرامة الإنسانية. ومع ذلك ، تختلف استجابة القوانين لهذا النوع من العنف باختلاف الفلسفة التي تحكم تدخل الدولة في الحياة الخاصة.
بعض النظم القانونية ما زالت تتعامل بحذر شديد، خشية المساس بما يُسمى “استقرار الأسرة”، بينما اختارت نظم أخرى نقل العنف الأسري من خانة الخصوصية إلى دائرة التجريم الصريح ، معتبرة أن الدولة مسؤولة عن حماية الفرد حتى داخل أكثر المساحات خصوصية.
ثانياً : القانون الأمريكي ـ من حماية الخصوصية إلى حماية الإنسان
يعتمد القانون الأمريكي مقاربة حاسمة تنطلق من مبدأ جوهري لا لبس فيه :
العنف داخل الأسرة جريمة عامة ، لا يبررها الزواج ولا تحجبها الخصوصية.
1. تجريم مستقل وفهم موسع للعنف
في أغلب الولايات الأمريكية ، لا يُترك العنف الأسري للنصوص العامة الخاصة بالضرب أو الإيذاء ، بل يخضع لتشريعات مستقلة تُعرف بقوانين العنف الأسري. هذه القوانين لا تضيق مفهوم العنف ليقتصر على الأذى الجسدي، بل تتبنى تعريفًا واسعًا يشمل :
العنف البدني
العنف النفسي والتهديد المستمر
الاعتداء الجنسي داخل العلاقة الزوجية
السيطرة القسرية والتحكم المالي
الملاحقة والترهيب واستغلال النفوذ داخل العلاقة
هذا الاتساع في التعريف يعكس إدراكاً قانونياً بأن أخطر أشكال العنف ليست دائمًا تلك التي تترك كدمات مرئية، بل تلك التي تُمارس يوميًا بصمت ، وتُهدم معها إرادة المرأة وشعورها بالأمان.
2. أوامر الحماية : الوقاية قبل فوات الأوان
تُعد أوامر الحماية من أهم أدوات التدخل في القانون الأمريكي ، لأنها تمثل انتقالًا من منطق العقاب اللاحق إلى منطق الوقاية المسبقة. فهذه الأوامر :
تصدر بسرعة قياسية
لا تشترط صدور حكم نهائي
تقوم على وجود خطر معقول يهدد سلامة الضحية
وتتضمن عادة :
إبعاد المعتدي عن منزل الأسرة
منعه من التواصل المباشر أو غير المباشر مع الضحية
إلزامه بتسليم أي سلاح بحوزته
توقيع عقوبات فورية عند مخالفة الأمر
هنا ، لا تُجبر المرأة على خوض معركة إثبات كاملة وهي في ذروة الخطر ، بل يمنحها القانون مساحة أمان أولية قبل أي مسار قضائي طويل.
3. دور الشرطة : تدخل حاسم لا وساطة اجتماعية
على عكس أنظمة تفضل الحلول الودية أو “الصلح الأسري”، يفرض القانون الأمريكي على الشرطة دورًا تدخليًا واضحًا. فالشرطة :
تتدخل فور تلقي البلاغ.
تملك سلطة القبض على المعتدي دون انتظار شكوى رسمية.
لا تترك قرار التحرك بالكامل للضحية.
هذا النهج ينبع من إدراك قانوني بأن المرأة المعنفة قد تتراجع عن الشكوى تحت ضغط الخوف أو التهديد أو الاعتماد الاقتصادي ، وبالتالي لا يمكن تعليق حمايتها على قدرتها على الاستمرار في المواجهة.
4. العنف الأسري كقضية تهم المجتمع
في النظام الأمريكي ، تُرفع دعاوى العنف الأسري باسم الدولة، لا باسم المرأة وحدها. وبهذا :
لا تتحمل الضحية عبء الصراع القانوني بمفردها.
لا يُغلق الملف تلقائيًا بمجرد التنازل.
يُنظر للجريمة بوصفها اعتداءً على النظام العام ، لا خلافاً عائلياً.
هذا التحول ينقل المرأة من موقع الطرف الضعيف الذي “يشكو”، إلى موقع الضحية التي يتبناها القانون بوصفها شأنا عاماً.
5. منظومة دعم متكاملة
ولا تتوقف الحماية عند حدود التجريم والعقاب ، بل تمتد إلى شبكة دعم واسعة تشمل:
دور إيواء آمنة للنساء المعنفات.
مساعدات قانونية مجانية.
برامج حماية ودعم نفسي.
إرشاد اجتماعي وإعادة تأهيل.
في هذه الرؤية ، تُعد هذه الخدمات جزءًا أصيلًا من العدالة، لا ملحقا إنسانياً هامشياً.
ثالثاً : المشهد المصري .. بين النصوص العامة وصمت الخصوصية
في المقابل ، يتعامل القانون المصري مع العنف الأسري عبر نصوص عامة متفرقة ، دون وجود تشريع خاص يعترف بالعنف الأسري كجريمة مستقلة ذات طبيعة مركبة. هذه المقاربة تفتح الباب أمام :
تردد واضح في التدخل الجنائي
تغليب منطق “الصلح” على منطق الحماية
تحميل المرأة عبء الإثبات والاستمرار في النزاع رغم الخطر.
الفارق هنا لا يقتصر على غياب تشريع محدد ، بل يتجسد في الرسالة التي يبعث بها القانون : هل يخاطب المرأة باعتبارها إنسانًا يستحق الحماية الفورية؟
أم باعتبارها طرفًا يُطلب منه الصبر والتنازل حفاظًا على صورة الأسرة؟
خاتمة : حين تتحول الخصوصية إلى غطاء للعنف
تكشف المقارنة بوضوح أن الخصوصية ، حين تُستخدم لتبرير الصمت على العنف، تفقد قيمتها الأخلاقية والقانونية. فالقانون الذي يتأخر عن حماية المرأة لا يصون الأسرة ، بل يتركها تنزف خلف الأبواب المغلقة ، ويشرعن الخوف باسم الاستقرار.
والسؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه اليوم لم يعد :
هل يجب أن يتدخل القانون؟
بل أصبح : إلى متى يظل هذا التدخل متأخراً .. بينما تُدفع المرأة ثمن الانتظار؟




