ما سوف أطرحه هنا هو محاولة مني لإلقاء بعض الأضواء الكاشفة علي الموقف الراهن في المنطقة لاستكشاف بعض حقائقه الغائبة وللتعرف عليه بكافة جوانبه وابعاده وخلفياته ، حتي لا نغالي او نبالغ في ما نتوقعه من إيران او في تعبيرنا عن صدمتنا فيها بما جاء عليه ردها الانتقامي الأخير من إسرائيل والذي توقع له الكثيرون منا ان يكون علي غير ما جاء عليه ، ليس فقط انتقاما من إسرائيل لتدميرها القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيالها لعدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني ، وانما انتقاما منها ايضا لجرائمها المروعة في غزة ، ولوضع حد لتهديداتها المستمرة لها بقصف مفاعلاتها ومنشآتها النووية وتدمير برنامجها النووي إلي آخر ما تحفل به القائمة الإسرائيلية الأمريكية من تهديدات وانذارات.
وإذا كانت النتائج تبني دائما علي المقدمات ، فبوسعي هنا ان أقول أننا نذهب بعيدا جدا وبما يتجاوز حدود الواقع في ما توقعناه او نتوقعه من إيران .. فتاريخ علاقتنا كعرب معها منذ لحظة قيام الثورة الإسلامية فيها والإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي في فبراير ١٩٧٩، وهو الذي كان اكبر واخطر العملاء الأمريكيين في المنطقة ، اتسم بالعداء لها علي الرغم من ان علاقة هذا النظام الإسلامي الثوري الجديد معنا كانت في بدايتها ، وكانت إيجابية للغاية سمح ببناء الكثير عليها فيما لو اعطيناها الفرصة الكافية من الوقت والظروف ، لكن هذه العلاقة سرعان ما تراجعت وانتكست وتدهورت ودخلت باطرافها في مسارات عدائية مزعجة إذا جاز التعبير ، حيث تباعدت المواقف والسياسات وتعمقت الشكوك حول الدوافع والنوايا والاهداف.
وكان السبب في انتكاسة العلاقات مع إيران راجعا بالأساس إلي تخوف نظم الحكم التقليدية المحافظة في دول الخليج العربية من نموذج إيران الثوري الإسلامي ومن قابليته لتصديره إليها وهو النموذج الذي يدعو إلي نصرة المستضعفين ضد الظلم والقهر ، وما إلي غير ذلك من المفاهيم الثورية الإسلامية التي روجت لها إيران الثورة وشكلت خطرا داهما علي أمن واستقرار هذه المجتمعات الخليجبة العربية الصغيرة والهشة والتي رأت فيها تحريضا عليها ودعوة للطوائف الشيعية الموالية لإيران للانقضاض عليها للإطاحة بها.
وهنا بدأت حملات المقاطعة والرفض لكل هذه المفاهيم والشعارات التي أتت بها الثورة الإسلامية الإيرانية ، والتي وصفت بأنها كانت تدس السم في العسل ، وتضع الخليج علي حافة الفوضي وعدم الإستقرار من خلال هذه المرجعيات العقائدية الثورية الجديدة التي وجدت سنداً ودعما كبيرا لها من طهران.
وزاد من حدة الخلاف والتباعد في المواقف وصف زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني لأمريكا بأنها الشيطان الأكبر في العالم وبانها السبب في كل الكوارث والمصائب التي حاقت بإيران وبدول المنطقة ..
وكان لهذا التحول الخطير في علاقة إيران بأمريكا من علاقة الحليف الأكبر إلي العدو الأخطر ، أمرا له دلالاته المخيفة بالنسبة لدول الخليج العربية التي كانت تري في أمريكا الحامي لها والضامن الوحيد لامنها والشريك الموثوق فيه في كل ما يتعلق بدفاعها عن مصالحها الاقتصادية والنفطية والمالية ، الخ .
وهذا التحول الجديد في سياسات إيران من النقيض إلي النقيض زاد كثيرا من هذه المخاوف الخليجية ، وعمق من شكوك دولها ومن اقتناعها بأن كل تلك التحولات الجديدة في سياسات وتوجهات ومواقف إيران الخارجية وفي شبكة تحالفاتها الدولية لم تكن في صالحها وكانت تتفاعل سلبا وتحدث أضراراً اكيدة لأمنها ، ومن هنا ساد الجفاء الشديد العلاقات الخليجية الإيرانية ..
وبدات مؤشرات العلاقات المتبادلة تتحرك في إتجاه عكسي تماما لما كانت عليه تلك العلاقات خلال حقبة الشاه .. وكان هذه هي المحطة الأولي علي طريق أزمة العلاقات الإيرانية العربية.
ثم زادت الأوضاع في المنطقة تدهورا وتوترا مع استيلاء شباب الحرس الثوري الإيراني علي مبني السفارة الأمريكية في طهران في مطلع نوفمبر ١٩٧٩، اي بعد تسعة شهور فقط من قيام الثورة الإيرانية ، وقاموا باحتجاز كل من كانوا بداخلها من دبلوماسيين واداريين امريكيين كرهائن ، كما استولوا علي ما فيها من وثائق وأوراق وملفات تتعلق بعمل اجهزة المخابرات الأمريكية في إيران وفي سائر دول الشرق الأوسط بل ووصفوا السفارة الأمريكية في إيران بأنها كانت اكبر وكر للتجسس في العالم.
وقد فضح الإيرانيون الكثير من الأسرار كما سقطت في ايديهم قوائم بأسماء العملاء ممن كانوا يعملون مع أجهزة المخابرات الأمريكية وبعضهم كانوا من الشخصيات السياسية الإيرانية اللامعة ..
وجاءت واقعة السفارة الامريكية وأزمة الرهائن المحتجزين فيها لتبدد كافة الشبهات التي احاطت بالثورة الإيرانية ولتنفي عنها أنها كانت من تدبير المخابرات الأمريكية لشق دول المنطقة وتعميق انقساماتها وتوتير علاقاتها ببعضها كضمان لحماية المصالح الأمريكية فيها.
وقد استمرت أزمة السفارة والرهائن الأمريكيين في طهران قرابة خمسة عشر شهرا ، وكان فشل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في إدارتها السبب الأكبر في خسارته أمام المرشح الجمهوري رونالد ريجان في نوفمبر ١٩٨٠.
ونجح ريجان في تسوية الأزمة مع طهران بصفقة متبادلة يتم فيها الإفراج عن الرهائن مقابل تعهد من الإدارة الأمريكية بعدم استخدام القوة ضد إيران .. وهو العرض الذي كان الرئيس كارتر قد رفض إلزام إدارته به ..
وهو ما ابقي علي الأزمة مستمرة طيلة هذا الوقت وكانت سببا للتشكيك في كفاءته وفي قدرته علي إدارة أزمات خارجية بمثل هذه الأهمية للأمريكيين.
وإذا كانت هذه الأزمة قد عمقت من حدة الصراعات الإيرانية الأمريكية ، فإنها وفي الوقت نفسه وضعت دول المنطقتين العربية والخليجية أمام مجموعة من الخيارات الصعبة كان عليها ان تحدد موقفها منها أما مع إيران او ضدها ، وكان الانحياز بطبيعة الحال مع أمريكا ضد إيران .. وهو ما زاد من عزلة الثورة الإسلامية الإيرانية في محيطيها العربي والخليجي ، وقلل كثيرا من هوامش حركتها ومن قدرتها علي التفاعل الإيجابي مع جيرانها.. حيث بدأت الأبواب تسد في وجهها الواحد تلو الآخر.
وزاد الطين بلة إقدام الرئيس المصري السادات بقرار منفرد من جانبه علي استضافة شاه إيران المخلوع في مصر وتعامل معه في البروتوكول الرسمي كما لو كان ما يزال امبراطورا لإيران ويشهد علي ذلك مراسم استقباله له في مطار القاهرة الدولي وإقامته في احد القصور الرئاسية ..
فعل السادات ذلك علي الرغم من ان اقرب حلفاء الشاه في امريكا والمغرب والأردن رفضوا منحه حق اللجوء السياسي في دولهم وانكروه وتنصلوا منه ، إلا السادات الذي برر قراره بأنه كان من قبيل رد الجميل له لموقفه من مصر في حرب اكتوبر ١٩٧٤ وقيامه بتزويدها بشحنات مجانية من النفط الإيراني ..
ولم يكن صادقا في مزاعمه لعدم وجود دليل موثوق فيه يدعم به روايته .. لكنه كان بارعا في خلط الأوراق وتصوير الحقائق بطريقته المعروفة .. لكنه بقراره الذي استفز به الإيرانيين واشعل به غضبهم كان كمن يتعمد صب الزيت علي النار ، وهو ما أوصل العلاقات المصرية الإيرانية هي الأخري إلي ما دون نقطة الصفر ، وترتب عليها قطع العلاقات الدبلوماسية وتفاقم حدة النزاع بين الدولتين المصرية والايرانية ، وازدادت الحملات الإعلامية العدائية المتبادلة بينهما حدة وبدرجة كان يتصور معها انها وصلت بطرفيها إلي نقطة اللا عودة ..
وان الستار قد اسدل علي تاريخ طويل من العلاقات المصرية الإيرانية التي بلغت ذروتها يوما بعلاقات النسب والمصاهرة بين الأسر الملكية الحاكمة في مصر وإيران.
وكما رأينا فإن علاقات الدول الخليجية والعربية بإيران ، ربما باستثناء سوريا وحدها ، كانت في تدهور حاد ومستمر ، ولم يشفع عذراً للنظام الثوري الإسلامي الجديد أنه قطع علاقة إيران بإسرائيل ورفع علم دولة فلسطين بدلاً من العلم الإسرائيلي فوق مبني السفارة الإسرائيلية في طهران ، وهو تطور كان يعني الكثير بعد ان كانت إسرائيل ولسنوات طويلة اكثر دول المنطقة قربا من إيران تحت حكم الشاه ، إلا ان هذا التحول في المواقف والسياسات الإيرانية من القضية الفلسطينية لم يجد صدي مسموعا له سوي لدي الفلسطينيين وحدهم وقتها ..
لكن هذه الأصداء المحدودة سرعان ما خفتت وتلاشت مع ما كان الرئيس العراقي صدام حسين يعتزم الإقدام عليه ضد إيران اما بدوافع ذاتية لإرضاء طموحاته السياسية للانفراد بزعامة المنطقتين الخليجية والعربية ، اما أنه فعل ذلك بتأثير أمريكي عليه للدخول بالعراق في حرب واسعة ضد إيران ، علي نحو ما فعل عندما وقف في مشهد درامي مفتعل في سبتمبر ١٩٨٠ وهو يمزق إتفاقية الجزائر التي كان هو من وقعها بالنيابة عن العراق مع إيران في عام ١٩٧٥ للسلام بين الدولتين الجارتين مقابل وقف إيران دعمها لحركة التمرد الكردي في شمال العراق ، وهو ما كان.
تعلل صدام في إلغائه لاتفاقية الجزائر بأنه كان يعيد بقراره حقوق العراق في شط العرب وأنه كان يصحح به ظلما تاريخيا وقع علي العراق في فترة صعبة من فترات تاريخه ولم يكن أمامه وقتها خيار آخر سوي الاذعان لشروط إيران وبتنصله منها ، انطلقت موجة عاتية من الدعايات العدائية لإيران من بغداد وصلت حدا من الكثافة والتطرف لم يكن من الممكن تصورها ضد من اسماهم الإعلام البعثي بالملالي وحكمهم الديني الرجعي المتخلف في إيران وهو ما اشعل شرارة الحرب التي انطلقت فور إلغاء إتفاقية الجزائر واستمرت زهاء ثمان سنوات حرقت الأخضر واليابس والحقت دمارا هائلا بالبلدين وخلفت اكثر من مليون قتيل وتكلفت مئات المليارات من الدولارات وكانت كارثة حقيقية من بدايتها إلي نهايتها.
وفي هذه الحرب وقفت الكويت والسعودية وغيرهما من دول الخليج إلي جانب العراق ضد إيران رغم ان العراق كان هو البادئ بهذ الحرب وكان هو من فجرها وانفرد بقرار إشعالها.
وعندما اضطر الإمام الخميني في اغسطس ١٩٨٨ إلي التوقيع علي وثيقة انهاء هذه الحرب والتسليم من جانبه بهزيمة إيران عسكريا فيها ، أعلن وبكل مشاعر المرارة والألم أنه كان أهون عليه تجرع السم من ان يوقع علي صك هزيمة بلاده مع العراقيين ..
ولنا ان نتخيل حجم الجرح لكبرياء إيران القومي بعد ما يقرب من عشر سنوات من الثورة ضاع معظمها في حرب فرضها نظام الحكم البعثي العراقي علي إيران وكان بالإمكان تفاديها بدبلوماسية عراقية اهدأ واكثر تعقلا.
لقد خلقت هذه الحرب لدي الإيرانيين ، حكاما ومحكومين عقدة الشعور بالخطر والتهديد وعدم الإحساس بالأمن والأمان سواء من العراق او من امريكا او من اي عدو خارجي كائنا من كان وان عليهم ان ييكونوا علي إستعداد دائم لملاقاة هذا الخطر في أي وقت بالاعتماد علي قوتهم الذاتية اساسا ..
وكان هذا الاقتناع هو الأساس الذي بني عليه الإمام الخميني فتواه بجواز اقتناء السلاح النووي للدفاع به عن النفس عند الضرورة ، وهو من كان قد افتي في وقت سابق بتحريمه استناداً إلي ذرائع وحيثيات دينية ، ولكن حرب صدام علي إيران وما فعله فيها من تدمير كبير لدولة جارة مسلمة ، هو الذي جعل الضرورات تبحن المحظورات ، ولتسقط إلي غير رجعة كل الموانع والمحاذير.
واجد من واجبي التذكير هنا بأن حرب صدام علي إيران لم تكن حربا عسكرية فقط وانما حولها بأعلامه المتطرف في عدائه لإيران إلي حرب عنصرية بين عرب وفرس او مجوس علي حد وصفه لهم وهو ما كان يعني النفخ في حساسيات تاريخية كانت قد خمدت وتجاوزها الزمن ولم تعد بأهمية او حساسية ما كانت عليه في عصور وازمان غابرة وبائدة ..
وكان هذا هو اسوأ ما في هذه الحرب العراقية الإيرانية والتي وضعت حاجزا نفسيا رهيبا بين ايران والعرب حتي وان كان العراق وحده هو من خاض هذه الحرب ضدها وفرضها علي الجميع.
أقول ذلك حتي نسأل أنفسنا ماذا كنا نتوقع منهم من مواقف إيجابية معنا وكل هذه المشاعر العدائية تتجمع وتتراكم فوق بعضها ولا تجد من يضع حدا لها.
لم تكن الحرب العراقية الإيرانية بهمومها العسكرية والسياسية والنفسية الثقيلة هي نهاية المطاف فيه هذا المسار الطويل من تدهور العلاقات بين العرب وإيران ، وانما جاء غزو صدام واحتلاله هذه المرة لدولة الكويت في الثاني من اغسطس عام ١٩٩٠ ليضيف هما جديدا آخر إلي جملة الهموم السابقة ..
فاحتلاله للكويت ثم هزيمته العسكرية الساحقة علي يد امريكا وشركائها في عملية عاصفة الصحراء واخراجه من الكويت بالقوة كانت إيذانا بدخول العلاقات الإيرانية الخليجية والعربية مرحلة اكثر خطورة واشد توتراً من كل ما سبق.
فحرب صدام علي الكويت كانت مبرراً لاستدعاء الأساطيل والقواعد والقوات الأمريكية لترابط بشكل دائم في المنطقة بموجب العديد من مواثيق الدفاع المشترك التي تم التوقيع عليها بين دول مجلس التعاون الخليجي مع أمريكا وغيرها من الدول الكبري دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
كان معني وجود كل هذه القوات والقواعد الأمريكية في دول الخليج هو محاصرة إيران من كل اتجاه وكانت إيران تعلم انها هي المستهدف به بعد ان تم تدمير الجيش العراقي وفرض عقوبات صارمة علي العراق بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وان هذا التواجد العسكري الأمريكي الضخم علي مقربة منها كان يزيد من الضغوط الواقعة عليها ، ويضيق كثيرا من دائرة خياراتها الأمنية ، ويلزمها اكثر واكثر بالتركيز علي محاولة تعزيز قدراتها العسكرية كي تستطيع ان تدافع بها عن نفسها وعن نظام الحكم فيها ضد كافة المحاولات الأمريكية والغربية والخليجية لاسقاطه واحلاله بنظام حكم اكثر انقيادا وتبعية لهم ..
وكان هذا هو هاجس إيران الأكبر ، وهو ان. حجم الخطر علي أمنها قد تضاعف مرات ومرات في ظل ضيق قاعدة الإمكانات المتاحة لها بعد ان استنزفتها حرب صدام علي كل المحاور والمجالات.
وفي كل ذلك لم تكن إسرائيل مطروحة علي أجندة اهتمامات السياسة الخارجية الإيرانية كأولوية إستراتيجية بارزة او كأحد الهموم الأمنية التي تشغل بال النظام الحاكم في إيران كان الخطر الاسرائيلي علي إيران قابعا بعيداً في منطقة الظل وكان تقدبر القيادة الإيرانية لعلاقتها مع إسرائيل ان إسرائيل لا تشكل خطراً داهما او تحديا عاجلا ومباشرا لأمن إيران القومي وذلك من واقع أنها طرف في صراع مزمن ومعقد ومباشر مع جيرانها العرب ، وان هذا الصراع هو قضية العرب وليس قضية إيران ، وان مواجهة إسرائيل عسكريا هي دورهم ومسئوليتهم وليست دور ومسئولية إيران.
ومن هنا ركزت إستراتيجية إيران الإقليمية علي توسيع قاعدة انتشارها في العديد من دول المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان واليمن وذلك من خلال الأذرع والوكلاء المتمثلين في مجموعة الأحزاب والمليشيات والجماعات التي تدين لها بالولاء لاستخدامهم كأوراق ضغط والتلويح بهم عند الحاجة ، واسندت مهمة تسليحهم وتدريبهم وتوجيههم والتنسيق بينهم لحرسها الثوري كفيلق القدس.
فهذه كلها خطط دفاعية في صميمها ، وتنبثق في الأساس من احساسهم بأنهم محاصرون ويعانون من عزلة خليجية وعربية وإقليمية ودولية ، وانهم مستهدفون بتهديدات مستمرة وبجملة كبيرة من الأخطار والتحديات الأمنية متعددة المصادر والدوافع والأهداف.
وهم لهذا كله لن يبددوا قواهم المحدودة نسبيا بالدخول في حرب ضد إسرائيل المدعومة بلا حدود بقوة حلفائها الأمريكيين ، حرب سوف تكلفهم الكثير من الدمار دون وجود سبب قهري يدعو إليها فعبء مواجهة إسرائيل يقع علي عاتق العرب ، وإذا كان للقضية الفلسطينية بعد إسلامي ، فإن العالم الإسلامي كله هو من يجب ان يتحمل المسئولية عنها وليس إيران وحدها ، وكان هذا الموقف أوضح ما يكون خلال حرب إسرائيل الحالية علي غزة ورد فعل إيران منها .
لم يكن من المنطقي او المعقول ان يجلس العرب في مقاعد المتفرجين وغزة تدمر وشعبها يباد ويجبر قسراً علي النزوح من دياره وآلة الحرب الإسرائيلية تدمر كل ما يقع في طريقها من بشر وحجر ، بينما نتوقع من إيران التدخل لانقاذهم والانتقام لهم حتي ولو كلفها ذلك قيام الأمريكيين والإسرائيليين بتدميرها ، وتعريضها لحرب دمار شامل سوف تتضاءل إلي جانب كارثية نتائجها الخسائر التي حاقت بها في حربها مع العراق في الثمانينيات ..
وكأنها بدلاً من ان تحافظ علي شعبها سوف تلقي به في محرقة تكون إيران هي الطرف الأكبر الخاسر فيها.
هذا هو ما يفرضه المنطق ويقبله العقل .. وإذا كان هناك من لوم يمكن التوجه به لاحد ، فليكن موجها إلي العرب وليس إلي الإيرانيين ..
فكل الحروب التي وقعت مع إسرائيل منذ قيامها كانت حروبا عربية إسرائيلية ، ولم يكن لإيران دور فيها او علاقة بها وكل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حروبها كانت أراض عربية وليست إيرانية ، والمسجد الأقصي المهدد بهدم الإسرائيليين له وكذلك القدس الشرقية المهددة بتهويدها ، هي رموز عربية تاريخية وتراثية ودينية عربية كبيرة وليست رموزا إيرانية حتي يكون لإيران دور في تحريرها وانقاذها .. فهي مسئولية عربية خالصة.
ولنحاول ان نهدأ ونعيد قراءتنا لتاريخ هذه المنطقة خلال العقود الأربعة الأخيرة لنعرف أين نحن من كل ما يجري، ولنعترف بشجاعة أننا كنا السبب في معظم ما تمر به هذه المنطقة من حروب وصراعات وأزمات بسبب فشلنا في إدارتها وحلها .. ونحن اثنتان وعشرون دولة وليس دولة واحدة كايران .. هذا ليس دفاعا مني عن إيران ، او كأنها بلا اخطاء او هفوات ، لكن اخطاءنا افدح وافظع منها بكثير.
واذا كان لي من لوم لإيران علي تصرفها الأخير ، فهو ليس لأنها لم تقف إلي جانب الفلسطينيين في حرب إسرائيل عليهم ، وانما لأن ضعف ردها بأسلحة كانت دون مستوي التأثير المطلوب ، ضاعف من احتمال استهداف إسرائيل لها بما كشفت عنه هذه الغارة العسكرية الإيرانية الأخيرة من نقاط ضعف وسلبيات تتعلق بكفاءة اجهزة الردع التي تحوزها وتعتمد عليها في دفاعها عن نفسها..
اريد ان اقول ان الخطر علي إيران قد زاد لم يتراجع ، والتحديات الأمنية تضاعفت بدلا من ان تنحسر وتتوقف. وهذا هو ما اردت التنبه إليه والتحذير منه عندما قلت إنه كان من الأفضل لها تأجيل الرد علي ما حدث لقنصليتها في دمشق بدلاً من التسرع بردود فعل ضعيفة تضر اكثر مما تفيد .. لكن ما حدث قد حدث وانتهي.
وتبقي لي كلمة أخيرة ، وهي أنه يجب علينا تذكر ان عقدة الخوف من المجهول المتمكنة من إيران جعلها تحذر من الجميع وتتوقع منهم الاسوأ باستمرار .. وعلينا ايضا ألا ننسي ان حرب صدام عليها تركت جرحا نفسيا غائرا لا يندمل .. ودفع إلي السطح بعداوات وحساسيات دينية وطائفية وعنصرية كثيرة لم نكن بحاجة إليها .
وإذا فهمنا عقدتهم التي تلازمهم وتفرض نفسها عليهم في ما ينتهجونه من سياسات او يتحركون به من ردود افعال ، فسوف نعرف كيف نحسن اختيارنا لأسلوب التفاهم معهم ، وليتحولوا مع الوقت إلي الجار الطيب والمتعاون الذي نأمله .. وسوف يكون ذلك إنجازا سياسيا كبيرا للغاية بحد ذاته.