✍️ يوحنا عزمي
لم تعد فكرة “إسرائيل الكبرى” مجرد أطروحة قديمة في الأرشيف السياسي، بل عادت اليوم على لسان كبار المسؤولين الإسرائيليين، وبغطاء أمريكي كامل.
أحدث التصريحات جاءت من بنيامين نتنياهو نفسه ، الذي أعلن في مقابلة تلفزيونية أنه يرى نفسه في “مهمة روحية ودينية” لتحقيق هذا الحلم الممتد من النيل إلى الفرات ، وهو المشروع الذي كان الغرب قد جمده لعقود طويلة ، لكنه الآن يخرجه من الأدراج ضمن خطة أشمل للهيمنة على المنطقة.
من نابليون إلى بريطانيا : الجذور التاريخية
في القرن الثامن عشر ، وأثناء غزوه لمصر والشام ، أدرك نابليون بونابرت أن مصر ليست مجرد ولاية عثمانية ، بل قوة كامنة تهدد مصالح الغرب بموقعها وثرواتها. ولضمان منع أي وحدة بين مصر والشام ، خطرت له فكرة إقامة حاجز دائم في الشام ، يحكمه اليهود الذين دعاهم رسمياً في بيانه الشهير للعودة إلى “أرض الميعاد” بدعم فرنسي.
فشلت خطته بهزيمته ، لكن بريطانيا تبنت الفكرة لاحقا. وزير خارجيتها “بالميرستون” صرح بوضوح أن توطين اليهود في فلسطين ضرورة لمنع الوحدة بين مصر والشام ، وبدأت منذ ذلك الحين الحملات الثقافية والفكرية التي مهدت للاستيطان الفعلي مع احتلال مصر عام 1882.
الجماعات الوظيفية : صناعة المشروع الصهيوني
الغرب لا يصرح للجماعات التي يستخدمها بأنها أدوات ، بل يمنحها إحساسًا بالقداسة. كما فعل مع بعض الحركات الإسلامية في العصر الحديث، فعل مع اليهود في القرن التاسع عشر ، فأسس الحركة الصهيونية ومنحها بعداً قومياً ودينياً.
انقسمت الصهيونية إلى تيارين :
الصهيونية الاشتراكية : ترى حدود إسرائيل داخل فلسطين فقط.
الصهيونية الدينية (اليمين) : تؤمن بمشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يشمل أراضي مصر وسوريا والأردن والعراق والحجاز واليمن.
من هذا التيار خرج زئيف جابوتينسكي ، الأب الروحي لليمين الإسرائيلي، والذي تأثر به قادة مثل بيجن وشارون ونتنياهو وبن غفير.
من التجميد إلى الإحياء
بعد حرب أكتوبر 1973 وانسحاب إسرائيل من سيناء ، بدا أن الحلم قد انتهى. حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “إيهود أولمرت” صرح عام 2008 بأن المشروع مات. لكن أحداث ما بعد 7 أكتوبر 2023، ومع الحروب المتزامنة في غزة ولبنان وسوريا واليمن ، والدعم الأمريكي غير المحدود ، أعادت إحياء الفكرة ، إذ رآها الغرب أداة مؤقتة مناسبة لتعزيز نفوذه في المنطقة.
لماذا الآن؟
منذ 2001، جربت الولايات المتحدة كل الوسائل للحفاظ على هيمنتها على الشرق الأوسط وكبح نفوذ روسيا والصين :
غزو أفغانستان والعراق.
دعم تيارات الإسلام السياسي.
الربيع العربي والثورات الملونة.
الحصار الاقتصادي والحروب النفسية على دول مثل مصر.
لكن النتيجة لم تحقق الهدف ؛ فدول المنطقة واصلت علاقتها بموسكو وبكين ، ودخلت روسيا عسكريًا إلى سوريا وأفريقيا، ومدّت الصين مشروع طريق الحرير. وهنا عادت واشنطن إلى خطتها القديمة : تفعيل “إسرائيل الكبرى” ككيان وظيفي يخدم مصالحها.
نتنياهو … الحلم وسيلة للبقاء السياسي
منذ دخوله المعترك السياسي ، قدم نتنياهو نفسه باعتباره الرجل الذي سيحقق “إسرائيل الكبرى”. صورته باتت مرتبطة بالمشروع نفسه، حتى أصبح صعبًا الفصل بينهما. واليوم ، في أضعف مواقفه السياسية ، يتمسك نتنياهو بالحلم أكثر من أي وقت مضى ، لأنه يدرك أن الترويج له هو وسيلته الوحيدة للبقاء في السلطة.
إسرائيل كوكيل استعماري حديث
المشروع لا يهدف إلى إقامة دولة دينية بحتة ، بل إلى خلق كيان يخدم الاستراتيجية الغربية ويتوسع أو يتقلص وفق الحاجة. كما تخلى الغرب عن سيناء مقابل خروج مصر من دائرة النفوذ السوفيتي ، يمكنه التنازل أو الاستحواذ على أراضٍ وفق حساباته المستقبلية.
الخطر على مصر
مع انهيار جيوش العراق وسوريا وليبيا ، بقي الجيش المصري الحاجز الأخير أمام أي تمدد إسرائيلي ، ما يجعله الهدف الأصعب للمشروع. الحرب القادمة قد لا تكون عسكرية فقط ، بل حرب نفسية تستهدف ضرب المعنويات وزرع الشكوك بين الشعب وجيشه ، لإضعاف الداخل حتى الانهيار.
“إسرائيل الكبرى” ليست أسطورة دعائية ، بل مخطط غربي قديم بدأ بفكرة الحاجز بين مصر والشام ، وتطور حتى أصبح دولة إسرائيل الحالية. بعد نصف قرن من التجميد ، يعود المشروع بدعم أمريكي وفي لحظة تراها واشنطن مثالية لإعادة رسم الخريطة.
التاريخ يكرر نفسه ، ومن يقرأ ما حدث أيام نابليون وبالميرستون سيجد أصداءه فيما يجري اليوم. الوعي هو خط الدفاع الأول ، لأن الحرب على العقول أخطر من الحرب على الأرض ، والدولة التي تسقط لا تعود ، والجيش الذي يُكسر لا يقوم من جديد.