كتبه/ محمد الشحات الباهو
تارةً ينظر إليها، وتارةً يلحن فن صوتها، يضعها في ترانيم لتشكل خطوط متدفقة كأن طيف حبه مداد من الدم يخطو بخفة طفل في المهد برشاقة إلى الأجوف العلوي في القلب، لينبض قلبه العاشق دمًا متحدًا ( هيمجلوبينه ) مع رشاقة رموشها، كأن كل رمشٍ سيل عصبي يربط فؤادها بوتينه.
أمسك الأورطى خاصته، وأخرج قاروة من دمائه، يروي فراشات عشقه، نبتة محلها القلب، نبتة خضراء فواحة مسكها، تتمايل فروعها حول جوف قلبه، مع كل نبضة، تخرج النبتة زهرة، تحوم في فؤادها؛ باحثةً بلهفة عن جفون فراشته.
يرتشف قطرات من قهوته، قهوة سادة، وأي مجنون هذا الذي يرتشف قهوة ممزوجة بقطرات السكر، وهو محتضن بقلبه عروس من الحلوى يسيل حلوى الهلام من شفتاها،
يشغل مسجل راديو قديم ليخرج صوت فتاة كأنها تتسابق مع الناى معزوفة غنائية، ن ن ٧٦٨، أم عن صاحبنا هذا ارتعد، شحب وجه، الدم جف في عروقه، الموت، اللحد، السكين، وصرخ بأعلى صوته السكين، ظهر سكين محاط بأتربة خيالية، صوت أقدام تضرب بغضب على الأرض، ضحكة شيطانية، ترانيم الشيطان قادمة، ضحكة سوداء تحضن حلق العنق، تشتهي أن تطحن عظام فكه، وأن تمتص قطرات دمه، لتتتلذ بطعمه الحار.
الهدوء عم المكان من جديد، لا حبيبة، ولا رموش ولا عين، ولا مسجل راديو قديم، فقط ورقة بخط سيراني ن ن ٨٦٧، في نفس الوقت عربة أجرة تحمل نفس ذات الرقم على لوحتها المعدنية، بخط أسود محمر ن ن ٧٦٨، تحركت قدمه دون وعي إلى السيارة، شيخ مسن يقودها، بدون أي سابق حديث، أخبره بنبرة حادة: “نون نون على العهد اختاروك، زي ما وفيت وفي، الدم الدم”
ربما لو حلل طبيب تخدير هذه الكلمات، سينبهر بلا شك، جرعة مخدر مفعولها لا يرى، خفافيش من الظلام تخترق أوردته، تلتهم حبل أعصابه بتباطؤ، نقاط سوداء تتسابق في دمه، تعتصر دماغه، تضرب كل جوف فيها بمطرقة؛ ليتخدر صاحبنا.
نون نون انطلقت الكلمة من العجوز هذا، أفاق صاحبنا، لا سيارة، ولا عجوز، فقط ورقة رمادية المقبرة الرابعة، أحس بتنميلة في قدمه، نظر إليها، يرى فقط أرجل من الظل تحمله لا شعوري، يمشي فقط، وهو يردد اعطيها قبلة، في انتظارك، للعهد أنت صاني، …. أصوات ضحك عالية، بكاء طفل لا يصمت، صرخة فتاة تستغيث.
فجأة وجد نفسه أمام المقبرة الرابعة،
حلمي سعيد، هو طبيب تخدير، في العقد الثاني من عمره، زوجته نادية، كاتبة، تهتم بالعالم السفلي، حيث تتكاتف ترانيم الشيطان معًا، لتهلك أي فرد يسير في هذا الطريق.
أكمل الغزل في نادية، حبك هذا إدمان لا شك، ضغط برفق على يداها، أعطاها قبلة برفق، يتناول قهوته السادة معها، ويتابع بعينيه عيونها وهي تتسابق مسرعة؛ لتقرأ باردية نون نون، أخبرته نادية، تلك الباردية تتحدث عن كيفية السكينة الأبدية.
هنا قال الراوي بتحسر: غبية هذا، أشفق عليها، ويلتاه إن خسرت عقلي، وراء سراب السحرة وكفرهم، إبليس يضرب بمطارقه المدنسة على عقول البسطاء.
حلمي: وأي سكينة تلك يا نادية
-سكينة الدم، سكينة الروح، الذات ترتاح، قرابين، نقطة دم، أوشحة ممزقة، نون نون.
لم يفهم كلامها، أراهن أنه يفكر الآن في النبطشية التي سيقضيها في مركز التخدير.
وهو غارق في تفكيره، نظر إلى نادية بلمح بصره، ارتعد، عيناها أظلمت بشدة، فجأة تحدثت بصوت ذكوري، نون نون العهد لا ينسى.
فقدت وعيها، صرخ حلمي، تجمهر الناس حوله، أحس النبض في عنقها، لا أنفاس تتحرك، ولا نبض مسموع، جحظت عيناها، ازرقت شفتاها، كُتب على جسمها نون نون.
البقاء للإله الأعظم، لا إله غيره، على العرش استوى، ربي وربكم، قالها الراوي وعظمة الموقف تتافقم في عقله.
وسط ذهول من الجميع، فجأة أوشاح سوداء تلتحلف حلمي بشدة، العرق يفوح جسده.
مستشفي الأمراض النفسية:
تساءل عنه الطبيب على حاله علم أنه بخير، واليوم موعد خروجه، سينتاب الفضول لدى الجميع أن يعرف كيف حدث ؟ كيف جرت الأحداث؟
صمت الراوي، قهقق، بابتسامة خبيثة، حمقاء أنتم، أتريدون أن تعرفوا ترانيم الشيطان بيسر هذا.
تلك الفتاة التي ضعف عقلها، من شغفها الدائم بالعالم السفلي، قد سُحرت بشعوذة الجان ومردتهم، وخبثهم، قد قرأت الشعوذة، الحمقاء لم تعلم أنها تقدم قربانًا لدمها… الراوي.
أمام المقبرة الرابعة وقف حلمي أمامها، لا يدري، أي ريح قد سارت به أمام تلك المقبرة، الزهور في كل مكان على جدران المقبرة نادية أحمد ٢٤/٧/٢٠٢٤ تاريخ الوفاة، فجأة تحولت الزهور الأورجوانية إلى اللون الرمادي الأسود، نون نون القربان، الدم، يسمع صاحبنا تلك الكلمات، باب المقبرة تهتز، بابها ينكسر، كفن أبيض يتحرك، يصرخ حلمي بأعلى صوته، لا يسمع صراخه، مسدود فمه، كأننا في أهوال القيامة، نادية تنظر إليه.
آه نادية، جميلة أنتٕ، والآن ماذا حدث، لا أرى شيئًا، خطواتها تسرع إليه، الصوت في عقله يتحدث قبلة، تحرك إليها وقبلها ليخرج الدخان الرمادي إلى فمه، توقفت أنفاسه، ازرقت شفتاه، سقط على الأرض.
مثلجة أطرافه، وشفتاه مزرقة، مازلت قهوته مكانها لم يرتشف منها قط، عيناه مفتوحة على الحائط كأنه رأي قابض الأموات، نون نون مكتوبة بالدماء على الحائط.
أي نون نون هذا، كيف مات، من نادية!!
ماذا حدث، يرددها القراء في تشتت وفضول، فقط الخوف على وجوههم مرسوم، فجأة سمع الراوي صوت ترانيم الموت قادمة، نون نون، صعق من هول المنظر، نفس الباردية على مكتبه؟!