زينب عبد الحفيظ.
أكره الضعف، ولو كان الخوف رجلاً لأثقبت رأسه منذ زمن. أكره هذه الوجوه المكفهرة التي تسير حولي، تتنقل في المدينة بأعينٍ تدور بخشية، كأن الموت يلاحقهم بسيفه الجذاذ. جالوت الطاغية هو السيف الجذاذ، وجيشه المهلك هو الموت الذي يفر منه القوم.
اختفى التابوت، واختفت معه القوة والعزيمة. تابوت العهد… كان رمزًا لقوتنا وعلاقتنا بالله، فحين ضاع، تلاشى الأمل من القلوب، وانسحبت الدماء من الوجوه، وتشربت بالقنوط. علت الهمهمات، وتتابعت الأصوات، والتقطت أذني ما يدور:
“نريد ملكًا… رجلًا يعيد تشكيل جيشنا، ويضرب جالوت ضربةً من حديد،
سرتُ خلف الأصوات، اندسستُ بينهم بفضول، ورفعت عيناي بين الحشود إلى ذلك النبي صموئيل، الذي أخيرًا تحدث قائلًا:
“هل ستقبل نفوسكم الطاعة؟”
ارتخت الأعناق، وتبددت العزيمة، وكان الترقب سيدهم. ثم قال:
“طالوت هو من اختير ليكون عليكم ملكًا وحاكمًا.”
وكأن كلماته لم تكن سوى سهمٍ قذفه لسانه، فاستقر في غمد الكبرياء. وأول كلمة اخترقت السكون:
“إنه ليس من الأسرة الحاكمة!”
ثم جاء السهم الثاني، محدثًا خللًا في الصفوف:
“لم يكن غنيًا!”
كنتُ مجرد فتى صغير، أراقب ما يحدث بشغف وفضول، وفي يدي مقلاعي وحفنة من الأحجار، لا تفارقني أبدًا. انساب صوتٌ وخيم قائلًا:
“حقاً ايها النبي، هل اختارني الله حقاً؟
رفع النبي يده، فأطبق الصمت على الجميع، ثم قال بحزم، نعم
“إن الله اصطفاك عليهم وزادك بسطةً في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء، والله واسع عليم.”
سكنت الأصوات، لكن النفوس لم تسكن… حتى جاء الدليل.
أشار النبي إلى الأفق قائلًا:
“إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة.”
دارت الوجوه والتفتت إلى بعضها البعض بحيرة وتردد، وفجأة تشخصت الأبصار وتعلقت بالسماء. يومها… حدثت معجزة جعلت أفواهنا تكاد تسقط أرضًا!
وإذا بالتابوت يُحمل أمامنا بأيدٍ خفية…
عاد تابوت العهد، وعادت معه الثقة بحديث النبي، فسلّم القوم لطالوت بالملك.
نظرت إليه مجددًا، وبينما السكون يجلس في قلبي، رأيت هيئته المهيبة… لم يختره الله عبثًا.
وضعت المعركة على قماشة الثقة، ونُثرت دماؤها المشبعة بالحماس على قلوب بني إسرائيل.
احتشد الجيش، ذا القلوب الركيكة، سُنت السيوف، برقت العيون، وانحبست الأنفاس…
قادنا طالوت لمواجهة جالوت.
كان طالوت رجلاً متفرسًا ذكيًا، وكان يعلم جيدًا أن هناك حفنة من الرجال الملتفين حوله، جزء من إيمانهم مصاب بالمرض.
عندما رأى تهلل الوجوه عند النهر، وقف بجواده، والتفت إلينا، وقال بصوت جهوري مخاطبًا:
“ها هو الماء، أيها العطاشى! ولكن غير مسموح لكم إلا باغتراف غرفة واحدة، ليس أكثر! ومن يزد عنها، فلا يسير خلفي بعد هنا، عودوا من حيث جئتم، لا حاجة لي بكم!”
ثم مضى بطريقه.
انهال الكثير منهم على الماء، يجرفون منه ما تطمح إليه بطونهم غير عابئين، بينما البعض اغترف غرفة واحدة بيده ومضى خلف الملك.
خسرنا الكثير من الجيش بهذا الاختبار.
ازداد حنقي من هؤلاء الضعفاء، لكنني روضت غضبي، وهرولت خلف البقية.
اصطف الجيش الواهن العدد، منتظرين جالوت وجنوده.
صوت صهيل الجياد، ورغاء الجمال، ووقع الأقدام يلوح في الأفق… وكلما اقترب الجيش، انكتمت الأنفاس.
نظرتُ حولي، فرأيتُ الوجوه شاحبة… سحقًا للخوف!
حولت مقلتيّ إلى الملك، فوجدته ثابتًا، لا يرتد إليه طرف، مُهَيِّئ الحواس، جامد الوجه.
حفرت الجياد صحراء فلسطين… واستعد التاريخ ليسجل معركةً خالدة.
تكاثف الغبار، وارتفع إلى السماء… ثم خرج من جوفه جالوت!
وما أدراك ما جالوت…
رجلٌ أشبه بالإعصار، ضخم الجثة، يقود جيشًا جرارًا، أقوياء، ذوو هيئات مرعبة، مدربون، يعلقون على أجسادهم الضخمة سيوفًا وأسلحة لم ترَ بني إسرائيل مثلها قط!
تزعزعت الصفوف، وتصبب العرق على الجباه، وكأن الموت يطبق على الصدور.
اقترب منا بجيشه، ثم أشار لهم بالتوقف، تقدم ساخرًا، أشار إلينا بازدراء، ثم قال:
“بربك يا طالوت، أَهؤلاء رجال يُعتمد عليهم؟!”
ثم ضحك، وأضاف متحديًا:
“إن كان فيكم أحدٌ شجاع… فليبارزني!”
صمتٌ مميت خيم على الصحراء…
لو نعق الغراب الآن، لانتزعت له القلوب من مواضعها!
كان الملك طالوت يطالعنا بخزي، بعدما لم يتقدم أحد…
حينها… احتدت عيناي، وقلت بصوت غليظ لا يناسب سني:
“أنا سأفعلها!”
تجمدت العيون نحوي.
نظر إليّ الملك نظرة ممزوجة بالدهشة والخيبة، ثم أشاح بوجهه عني.
لم أعقب على فعلته، فأنا حقًا لم أكن ماهرًا في المبارزة، لكنني كنت مؤمنًا أنني سأفعلها!
تقدمتُ بثبات، بينما كان جالوت يطالعني باستخفاف…
قبضتُ على مقلاعي، وأخرجتُ حجرًا غليظًا من جيبي… ثم… بحركة مباغتة، أطلقتُ الحجر بكل قوتي!
استقر الحجر في رأسه… ووقع جالوت صريعًا!
صمت… دقيقتان من الصمت القاتل.
لم يصرخ أحد، لم يتحرك أحد…
ثم…
“قتل داوودُ جالوت!”
تعالى صوتٌ مبتهج وسط الذهول، ثم ارتفع الصياح في السماء…
“قتل داوود جالوت!”
تحول جيش العدو إلى وحوش هائجة، واندلعت الحرب الطاحنة!
قادنا الملك طالوت… وانتصرنا.