مقالات

الصراع الروسي الأوكراني : آثاره على أوروبا وحلف الناتو

أوروبا بعد الحرب الأوكرانية

تحولات جيوسياسية وتحديات مستقبلية

✍️ يوحنا عزمي 

أوروبا هي الخاسر الأكبر من خطة ترامب ـ بوتين لانهاء الحرب الأوكرانية بل أوروبا تخسر بهذا الإتفاق اكثر مما سوف تخسر أوكرانيا نفسها ، التسوية الأمريكية للأزمة الأوكرانية التي أعلنها ترامب ، يمكن قراءتها بأكثر من زاوية ، من زاوية الحسابات الروسية ، والأوكرانية ، والأوروبية ، والأمريكية ، والصينية.

لعل اخطرها هو الحسابات الأوروبية ، التي ترى أنها الخاسر الأكبر من نهاية الحرب الأوكرانية بهذا الشكل بالنسبة لـ أوروبا ، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجح فيما يلي :

ـ إسقاط النظام الأوكراني والرئيس الموالي للغرب فولوديمير زيلينسكي.

ـ إسقاط حق أوكرانيا في الإنضمام إلى حلف الناتو.

ـ توقف قطار إنضمام أوروبا الشرقية ( أوروبا السوفيتية ـ أوروبا الروسية) إلى حلف الناتو.

ـ إنهيار فكرة جمهورية أوكرانيا القابلة للحياة عقب خروجها من الفلك الروسي ، وانتصار سردية روجها بوتين ان أوكرانيا ابتكار سوفيتي مؤقت غير قابل للإستمرار ومصيره للتفكيك والتقسيم والزوال.

ـ روسيا اثبتت لكافة الجمهوريات السوفيتية السابقة ان أوروبا بل الغرب وحتى أمريكا وحلف الناتو غير قادرين على حمايتهم كما كانت تحميهم روسيا سابقاً في الحقبة القيصرية والسوفيتية ، وان الغرب تخلى عن أوكرانيا وتركها للتقسيم والابتزاز الأمريكي العلني على يد إدارتي جو بايدن ودونالد ترامب وصولاً إلى الإقرار الأمريكي بالتقسيم والانتصار ولو الجزئي الروسي.

ـ روسيا كانت اكثر حرصاً على أوكرانيا طيلة فترات الحرب عكس الغرب الذى وظف أوكرانيا يوماً بعد يوم باعتبارها مجرد مصيدة بوجه روسيا.

ـ روسيا تكرم شعوب أوكرانيا وكنائسها بينما زيلنيسكي بأوامر من الغرب حظر الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في أوكرانيا ، والغرب طرب لانهيار أوكرانيا ونهش في ديموجرافيتها واستقبل 5 مليون لاجئ اوكراني منهم مليون في المانيا فحسب من اجل ان يجد ايد عاملة لمصانعه ومحاله واقتصاده وتجارته ، ويوم تتسابق أمريكا وفرنسا للظفر بالمعادن الأوكرانية في إتفاق رسمي علني.

ـ ما بين روسيا وأوروبا هذا إنتصار وتحول جيوسياسي لصالح روسيا له تأثير الدومينو في أوروبا الشرقية دون الحاجة لتكرار المغامرات العسكرية.

ـ منذ نهاية الحرب الباردة روج الغرب لفكرة “الحلم الأوروبي” لدى الشعوب السوفيتية والروسية واليوغوسلافية ، وان تلك الشعوب حتى تصل للحياة الرغداء والعصرية يجب ان تنتسب لـ أوروبا وليس روسيا ، الحلم الأوروبي نسخة من الحلم الأمريكي ، يمكن القول إنه عملياً هو الترويج لـ “أوروبا الأمريكية” بدلاً من “أوروبا الروسية او أوروبا السوفيتية” التي عاش بها تلك الشعوب لعقود من الزمان.

اليوم هذا الحلم او الأيديولوجيا او الخيار .. الحلم الأوروبي ـ الحلم الأمريكي ـ أوروبا الامريكية ينهار أمام أعين الشعوب السوفيتية واليوغوسلافية سابقاً ، رسالة روسيا من تلك الحرب ومن حرب جورجيا سابقا هو بغض النظر عن النتائج العسكرية للحرب ولكن النتائج السياسية تثبت ان أوروبا لن تنجد او تنتصر للشعوب السوفيتية واليوغوسلافية السابقة كما فعلت روسيا القيصرية والسوفيتية والاتحادية حالياً.

ـ الحرب الأوكرانية اثبتت ان ترتيبات الأمن الجماعي في القارة الأوروبية كلها أمريكية بحتة ، وان أوروبا بدون أمريكا في موقف عسكري دفاعي مزري ، ومع سياسات ترامب الرامية لتحرير أمريكا من آلية الدفاع عن أوروبا توفيراً للنفقات فإن الحرب الأوكرانية وسياسات ترامب المتعلقة بحلف الناتو في ولايته الأولى والثانية وضحت ان أوروبا بحاجة إلى سياسة دفاعية جديدة وفورية ومستقلة عن أمريكا ما يعني عملياً انهيار واستبدال حلف الناتو واصبح مصطلح “أوروبا ما بعد الناتو” يتردد في بيوت الفكر والسياسة في القارة الأوروبية.

ـ الحرب الأوكرانية أدت لمزيد من الصعود للحكومات القومية والحكومات الموالية لروسيا في القارة الأوروبية ، عمليا الإتحاد الأوروبي انفجر من الداخل.

الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ بضع سنوات قرأ هذا المشهد وقال ما معناه ان حلف الناتو والإتحاد الأوروبي بشكلهم الحالي قد انتهت صلاحيتهم.

ماكرون طرح فكرة منتدى المجموعة الأوروبية ، اكثر من 40 دولة بدلاً من 27 دولة فحسب في الإتحاد الأوروبي .. والتجمع القاري دا يبقا على نمط جامعة الدول العربية بالمعني الإيجابي ، يعني وصاية اقل من الإتحاد القاري على الدول الأعضاء.

مفيش برلمان أوروبي يصدر قرارات شبه ملزمة للدول الأعضاء ، او الإتحاد القاري يبقا له سياسات ورئاسة ومؤسسة دبلوماسية ورئيس برلمان برضو لهم صلاحيات بحق الدول الأعضاء ، أوروبا بحاجة إلى تجمع قاري ، ولكن فكرة الوحدة الأوروبية والقومية الأوروبية سقطت خلاص بل وحتى فكرة العملة الأوروبية في طريقها إلى زوال.

الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو وعملة يورو إلى زوال ما قبل العام 2030. حرب أوكرانيا والتسوية الأمريكية الروسية المرتقبة كانت المسمار الأخير في نعش تلك الترتيبات إلى جانب ان روسيا كانت حاضرة تقريبا في كل مسمار ، ما بين صعود القوميين او تصويت الشعوب الأوروبية لحكومات موالية لروسيا بشكل علني او الآثار الإقتصادية لحرب أوكرانيا على الإقتصاد الأوروبي وابرزهم المانيا وغيرها.

نقدر نقول بعيدا عن اى استعراضات لفظية ، ان الترتيبات الغربية للقارة الأوروبية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 قد تآكلت وانتهت بعد 80 سنة.

للمرة الأولي يكون هنالك مفترق طرق بين أمريكا وأوروبا بشكل جذري منذ التحالف بينهم عشية قيام الحرب العالمية الأولي عام 1914 اى منذ 111 عاماً ، تتعدد الأسباب ما بين ترامب وبوتين واخطاء الإتحاد الأوروبي وحكوماته الرئيسية وصعود القوميين والأزمات الاقتصادية العالمية منذ عام 2008.

ختاماً .. العالم سوف يشهد ميلاد أوروبا جديدة في الفترة المقبلة ، ويأمل الأوروبيين ان تنتهي تلك الترتيبات قبل حلول عام الحسم .. 2030 .

ومفارقة للتاريخ .. هذا التغيير تنبأ به الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وحذر منه بل ووضع له البدائل المحتملة التي سوف تصبح بنسبة كبيرة هي أوروبا الجديدة في الأعوام المقبلة ، بيوت السياسة في أوروبا عموماً تنظر إلى ماكرون باعتباره صاحب تيار وايدولوجيا ومصطلح الماكرونية موجود من قبل ظهور مصطلح الترامبية.

المفارقة ليست كل هذا .. ولكن الوقت لن يسعف ماكرون لمعاصرة كل هذا من داخل قصر الاليزيه ، لتثبت الأفكار ـ شريطة ان تكون حقيقية ـ للمرة التريليون أنها ـ دائماً ـ اكثر عمراً من صاحبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!