ابداعات

رسالة رعب بين السطور

 

 

شريف جلال القصاص 

 

في البدء… كان الخوف…. لا صوتٌ يعلو فوق أنفاسٍ تختبئ، ولا ضوءٌ يهزم عتمةً تغلي فيها الكائنات بلا أسماء.

 

الخوف ذلك الشعور البدائي الذي يسبق الفهم، ويسبق ضوء النهار ذاته… لأنه وُلد في أعماقنا الغارقة في الظلام، عندها تعلّم الإنسان أن يُصارع الظُلمة بالنار، ثم بالمصابيح، ثم بالكهرباء، ثم ظنّ أن الخوف القابع في جوف الليل قد هُزم… لكن الحقيقة أن الظلام لم يكن هو العدو.

 

اقرأ… لكن تذكر أن ما يراقبك الآن، أقرب من الورق بين يديك.”

 

البشر لا يخافون العتمة لذاتها، بل مما قد يختبئ فيها… يرتعبون من المجهول، مما لا تُبصره العين، مما يزحف في الزوايا بصمت، من همسات لا تُسمع، من ظلال لا تعكسها الشمس، من خيالات تُرسم على الجدران ولا يتمنّون رؤيتها، يرتجف أحدهم فجأة… لمجرد نسمة باردة تمرّ خلف أذنه، أو صوت خافت يُشبه انفّاسًا جائعة تزحف خلف الأبواب.

 

 

لكن… هل تعلم كم كنّا حمقى حين اتخذنا من الليل عدوًا؟ ظنّنا أن الرعب لوحة من نسج الخفاء، فحمّلنا الظلام أوزار الفزع، وجعلنا من تحطّم المصابيح سببًا أبديًا لتلاشي الأمان، لكن الحقيقة التي غابت عن الجميع هي:

 أن الخطر الأشد رعبًا… هو الضوء!

 

 “نبرتك حين تقرأ بصوت خافت، جعلته يقترب أكثر.”

 

الضوء لا يرحم… لا يحجب، بل يزيح السُتئر السوداء، ويمزّق الحُجب، يفضح ما نخشاه، يفتح نوافذ الغرف المسكونة، ويشقّ قبورًا تطفو منها أشباح تُشبهنا، فيه ينهض ما دفنّاه في أعماق اللاوعي، وتتكشّف ملامح الوحوش التي صنعناها بأيدينا، بكل تفاصيلها المفزعة، تصبح الجدران بيضاء أكثر من اللازم، فتنعكس عليها ملامح الرعب جلية، حينها… يصبح النهار فخًا، والصباح خلاصًا يقودنا إلى الهلاك.

 

 “أنت لم تلتفت بعد… لكنه يرى جانب وجهك.”

 

لكنّ البشر لا يطيقون هذا العبء طويلًا… لا أحد يحتمل مواجهة الرعب الخام، ذاك العاري من الشكل والاسم، الجالس على عرش الضوء الساطع، فنلجأ إلى ترويضه… نغلّفه برؤية ضبابية، نحاصره داخل قصص تُعرض على شاشة داكنة، نرسم له وجوهًا مألوفة، نُعلّبه في أفلام تختزله في مشاهد ليلية محفوظة، تمزّقها فواصل نلتقط فيها الأنفاس… فنشعر بتحكّم زائف.

 

 

 

في السينما والكتب الغربية، ثمة نمطٌ معروف للرعب: منزلٌ معزول… ظلامٌ دامس… أصواتٌ هامسة… زجاج نافذة يُصدر صريرًا غريبًا كلما مرّت ريح، طفل يرى ما لا يراه الكبار… مرآة تُظهر شيئًا خلفها… خطوات تلاحق فتاةً في ممر ضيّق، يخفق قلبها ويخفق معه قلب المشاهد…، باب يُفتح وحده… 

 

 

 

 ثم يظهر “الرعب المُكبل بإحكام”:

 جمجمة… شيطان ذو قرنين يضحك ضحكة توتر الأعصاب… مستذئب مكسوّ بالشعر يعوي يجمّد الدماء في عروقنا للحظات… أو طفلة يسكنها شيطان، تبتسم ابتسامةً مخيفة، تنفذ نظراتها الحادّة إلى عمق أرواحنا.

 

 

 “منذ أن بدأت القراءة، وأنت لست وحدك.”

 

 

تعلّمنا هذه القوالب… وألفناها، صرنا ننتظرها كما ننتظر مشهدًا مكررًا في طقسٍ معتاد، ففقد الرعب تأثيره، بعد أن صار استخدامه مرة واحدة بعدها تنتهي صلاحيته.

 

لكن…

هل تتذكّر ذلك الفيلم الذي منعك من النوم؟ هل زارك بطله في أحلامك؟ هل لجأت يومًا إلى سرير والديك تستنجد من كائن لا يُرى؟ هل شعرت بعيونٍ تراقبك من زاوية مظلمة؟ هل أيقظك صوت صرير خزانة تتحرك وحدها… أو خفّة حفيفٍ لم يأتِ من شيء؟ هذا ما لم يعد يقدّمه الرعب المصنّع… لكنه ما تمنحه الأسطورة.

الأسطورة التي تتسلل من أعماق اللاوعي، وتتّخذ شكل خوفك أنت، الأسطورة التي تُقال همسًا في الريف… لا تُصوَّر على الشاشات، لكنها تسكن خلايانا.

 

 

“عندما تتوقف عن القراءة… سيهمس باسمك.”

 

 

“العَوّ” واحدة من أكثر الأساطير الشعبية رعبًا في ذاكرتنا الجمعية، أحد أشهر الطواطم التي تسكن محراب ثقافتنا، التابو الأكبر الذي ظللنا نُهمس باسمه جيلًا بعد جيل، رمزٌ غامض يتحقق به نوعٌ من التواصل العابر للزمن بين الأجيال.

 

 

قلّما تخلو كتب الأساطير الشعبية من محاولةٍ لتفسير هذا الكائن، وقد ظهر اسمه في مؤلفاتٍ عديدة تناولت الموروثات والفلكلور الشعبي، خاصةً لدى الباحثين الذين درسوا بنية الحكايات الشعبية، والخوف الجمعي في الثقافة المصرية، وجميعهم أشاروا إلى “العَوّ” باعتباره كائنًا ليليًّا، يخطف الأطفال دون سبب واضح، ويتجسد في وعي الجماعة ككابوسٍ لا ملامح محددة له… رعبٌ بلا وجه.

 

 

“كل ما تسمعه الآن… ليس في رأسك فقط.”

 

 

 

لم يكن الدكتور جمال عبد السلام، المتخصص في الفلكلور والرعب الشعبي، يتوقّع أن تتحوّل رحلته التوثيقية إلى قرية صغيرة قرب كفر الشيخ، من زيارة روتينية لتسجيل حكاية محلية… إلى مواجهة حقيقية مع كابوسٍ حي، لا يزال يسكن ذاكرة القرية.

 

“أحيانًا يختبئ في ضوء الشاشة أمامك.”

 

 

 

في إحدى قرى دلتا النيل، اعتاد الأهالي إرسال أطفالهم مع الغروب لجمع أعواد الذرة الجافة. من بين هؤلاء كانت “فُطيمة”، طفلة في العاشرة… ولم تعد. حين هبط الليل ولم تظهر، خرجت أمها بفانوس زيت يتأرجح في الريح، ينفث ظله المرتجف على الجدران الطينية، تناديها بصوتٍ مرتجف: “يا فُطيمة! ارجعي يا بنتي… أين انت؟!”

 لحق بها الجيران… ينادون، يفتّشون، يهمسون، ويتوجّسون، الهواء كان ساكنًا… ساكنًا حدّ التهديد.

 

وفجأة… دوّى عواء غريب في قلب الحقول، عواء طويل… متقطّع… كأن شيئًا يتحشرج في حلق كائن لم يولد بعد.

 

 

 

 “لا تحاول البحث عنه، هو يعرف أين تنظر.”

 

 

 

اتّجهوا نحو مصدر الصوت، فوجدوا قطعة من فستان “فُطيمة” ممزقة… وبجوارها آثار أقدام غريبة:

 واحدة صغيرة… لطفلة، والأخرى؟ 

ضخمة… بلا أصابع، بلا كعب، وكأنها ليست قدمًا، بل ثقلًا سقط من أعلى، اقتفوا الآثار حتى قادتهم إلى شجرة توت وحيدة، واقفة كأنها حارسٌ صامت وسط الغيطان، فروعها تنبض بالحركة رغم أن الريح توقفت.  

 

تحتها… وجدوا دمية قماش ممزقة، لكن “فُطيمة”؟

 لم يعثر عليها أحد، وكأن الأرض قد ابتلعتها.

 

بعدها بدأ الأهالي يتهامسون عن كائنٍ ليليٍّ غامض: يُصدر عواءً مخيفًا كل ليلة…

 

كل من قال إنه رآه… وصفه بشكل مختلف:

 رجل طويل… ظلّ يمشي بلا قدمين… عيون مشتعلة… جسد بلا رأس، كأن الكائن يتجسد حسب مخاوف كل من يراه.

وصار يُقال: “العَوّ… خطف فُطيمة.”

هكذا وُلدت الأسطورة… وهكذا انتقلت من قصة إلى خوف، ومن خوف إلى كابوسٍ موروث، 

 

 

“أغلب الظن… أنك شعرت بلمسته على كتفك.”

 

 

يقول الدكتور جمال: “اسم العَوّ قد يكون مشتقًا من العواء… لكنه في الحقيقة ليس صوتًا، بل انعكاس.”

فالعَوّ لا يُرعبك لأنه كائن بشع… بل لأنه يتجسد في ما تُخفيه أنت، يتسلل إلى خيالك، ويأخذ شكل خوفك الشخصي.

 

 

الرعب الشعبي المصري… لماذا هو مختلف؟

يقول الدكتور جمال: “الرعب الشعبي المصري عبقري، لأنه لا يمنحك شكلًا ثابتًا للخوف… بل يتركه لك.

 

 في الغرب، الرعب محدد المعالم: شبح، قاتل، شيطان، أما عندنا، فالرعب لا يأتي من الخارج… بل من الداخل.

 الغرب يرسم الوحش، ونحن نرسم ظله.”

 

ولهذا، لا يموت “العَوّ”، لأنه ليس خرافة… بل حال.  

ليس كائنًا… بل فكرة تسكن العقل.

العَوّ ليس ظلًا يمر خلفك، ولا مخلوقًا تحت سريرك، بل هو أقرب إليك مما تتخيل.

 

 إنه صورتك في المرآة حين تبتسم لك بابتسامة لا تشبهك، وتوبخك على ما اقترفته يداك.

 

العَوّ ليس هيئة، بل هو:  

جرح لم يلتئم.

 كابوس صامت.  

يقينك بالفشل قبل أن تبدأ.

 استسلامك لخطأ تبرره لنفسك كل يوم.

إنه “أنت” الحقيقي… الذي دفنته بيديك، ويعود الآن ليطالبك بالاعتراف.

 من يخشاه… يراه.

ومن يواجهه… قد يحرر نفسه.

 

لكن تذكر:

 العَوّ لا يتعب، كلما هربت منه، لحقك، وكلما واجهته، غاص في أعماقك ينتظر لحظة ضعفك.

 

ربما لا نملك أن نُطفئ العَوّ في داخلنا… لكننا نملك أن نمنعه من أن يقودنا.

 

العَوّ نداء داخلي، لا يمكنك تجاهله فإن رأيته، لا تهرب، بل اسأله:

من أنت؟

 أيّ جزء منّي تم نسيانه؟

ما الذي تريدني أن أتذكّره؟

فإن لم تجبك الزوايا المظلمة… فلعلّ الضوء نفسه هو من يُخفي الإجابة.

 

“إذا جمعت بدايات همساتي ورسائلي بين السطور … ستعرف الحقيقة لكن ربما يكون قد فات الآوان.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!