شريف جلال القصاص
على جانبي الطاولة الزرقاء، ذات الشبكة البيضاء في منتصفها يقف لاعبا تنس طاولة يتبادلان ارسال الكرة، عيناهما تثبتان على نقطة في طرف الطاولة لا يراها أحد سواهما؛ يدهما تتحرك بخفة كريشةٍ في مهبّ الريح، والكرة البيضاء تقفز في الهواء لتسقط بدقة في المكان الذي اختاره عقلهما قبل نظرات عيونهما.
ليست اللعبة هنا مجرد رياضة… إنها درسٌ للحياة:
أن تسبق خطواتك نظراتك، وأن ترسم قدرك بعينيك قبل أن تصل إليه قدماك.
هل يمكن أن تكون حياتك كلها كرة صغيرة تتنقل بين قراراتك، تتحكم فيها بنظرة ثابتة لا ترتعش؟
هل يمكن لعقلك وروحك أن يشكلا سهمًا يصيب قلب المستقبل قبل أن يولد؟
هل يمكن لصورةٍ ذهنية وحلمٍ صادق أن يغيّرا مسار العمر كله؟
في صيف عام 1988، خرج الصحفي المحلي جون كيربي من مكتب رئيس تحريره غاضبًا، حاملاً استقالته، وكأن حلمه الصحفي يتساقط من بين يديه. كل باب طرقه كان مغلقًا، كل صحيفة ردّت عليه بالرفض. لكن جون قرر ألا يستسلم، بل أن يرفع سقف حلمه: أن يعمل في نيويورك تايمز.
كل صباح، كان يرتدي ملابسه الأنيقة، يحمل حقيبته، ويجلس في مقهى صغير قرب مقر الصحيفة العريقة. وفي دفتر أسود، كتب: “ذهبت إلى مكتبي اليوم، التقيت زملائي، بدأت كتابة مقال جديد…”. وصف مكتبه، زملاءه، وحتى المقال الذي سيحقق شهرته. كتب كأنه يعيش ما لم يحدث بعد.
بعد ستة أشهر، رنّ هاتفه. كانت نيويورك تايمز تعرض عليه وظيفة. والأغرب… أن المقال الذي نشرته الصحيفة وحمل اسمه كان نسخة من المقال الذي تخيله حرفيًا قبل شهور.
في أواخر التسعينات، جلس طالب الفنون الألماني مايكل هانسن يرسم لوحة تفيض بالأحلام:
بيت خشبي يطل على حديقةٍ واسعة، سيارة حمراء لم تصدر بعد، وامرأة بابتسامة دافئة شعرها بلون الخريف.
لم تكن لوحته تمرينًا أكاديميًا… كانت خريطة قلبه،
بعد عقدٍ من الزمن، وجد نفسه يسكن البيت ذاته، يقود السيارة ذاتها، ويرى ابتسامة تلك المرأة كل صباح.
هل كان الأمر مصادفة مذهلة؟
أم أن مايكل كان يرسم “واقعًا مؤجلًا”؟
علم النفس العصبي يؤكد أن الدماغ يتعامل مع الصور الذهنية القوية كما يتعامل مع التجارب الحقيقية، كل مرة تتخيل هدفك بدقة، تبني شبكة من المسارات العصبية، تجعل جسدك يتصرف كما لو أنه حققه بالفعل.
لذلك يتدرب الرياضيون الكبار على الفوز بعقولهم قبل أن يتذوقوه في الملاعب،ودراسات أثبتت أن الأداء قد يتحسن بنسبة تصل إلى 45% بفضل التخيل الواعي وحده.
أما رجال الأعمال والمبدعون، فيخطّون تفاصيل مكاتبهم وشركاتهم على الورق قبل أن تصبح ناطحات سحاب.
عزيزي قبل أن تتردد في محاولة فهم ما طرحته عليك.
هناك مدرستان لتفسر هذه الظاهرة:
التفسير العلمي يؤكد أن تركيزك الشديد على حلم ما يجعل عقلك يرصد فرصه بدقة، فتبدو الأحداث وكأنها تتآمر لتحقيقه.
بينما التفسير الفلسفية يزعم أن نواياك العميقة تصنع ذبذبات تُعيد تشكيل احتمالات الواقع من حولك.
حتى كارل يونغ تحدّث عن شبكة غير مرئية تربط عقول البشر ببعضها، بينما فيزياء الطاقة تهمس بأن النية تغيّر الجزيئات ذاتها.
لكننا نملك بعدًا آخر… لا يتطرق إليه شك أنه اليقين بالله. “أنا عند حسن ظن عبدي بي.”
ليست الثقة في قدراتنا هي التي تصنع المستحيل، بل الثقة في قدرة الله على جعل المستحيل ممكنًا.
صديقي، البصريولوجي وهو فن رؤية الغد
هو الثقة أن الحياة ليست بعيدة عن لعبة تنس الطاولة:
إذا ثبّتّ عينيك على نقطة سقوط الكرة، ستصل إليها.
افعل الشيء نفسه مع أحلامك:
دوّن تفاصيلها، عشها في خيالك، كررها حتى تصدّقها، وسترى الواقع يلين أمامك كطينٍ يشكّله إيمانك.
لكن انتبه…
العقل لا يفرّق بين صورة وحقيقة؛ ما تزرعه في خيالك قد ينمو ليملأ حياتك، سواء استعددت له أم لا.
هنا تكمن قوة “البصريولوجي”: ذلك العلم الجديد الذي يعلّمنا أن صورنا الداخلية ليست خيالًا عابرًا، بل خرائط طريق نحو غدٍ نصنعه بأعيننا، ونعبده بعقولنا، وونحدد تفاصيله بإيماننا.