✍️ يوحنا عزمي
سوف يكشف المستقبل على نحو قاطع أن كل القوة التي ادعى الرئيس الأمريكي امتلاكها ، وكل القدرة التي تفاخر بها على استخدامها، لم تكن سوى خدعة كبيرة ، خدعة نجحت في إيهام البعض بقدرتها الهائلة بينما هي في الواقع كانت مجرد وهم فارغ.
وأكثر من صدق هذا الوهم ، وأغفل حقيقة الأمر ، كانت الدول العربية التي انغرست في فخ هذه الادعاءات وارتكبت خطأ تصديقها، وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يتجرأ على التمادي في استغلال تلك الثقة والابتزاز ، محققًا من خلالها ما كان من المستحيل أن يحصل عليه من أي طرف آخر.
لقد أسس على هذا الوهم استراتيجية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب تلك الدول، مستفيدًا من ضعف تقديرهم لقدراته الحقيقية، ومن ثقتهم بما أعلن عنه دون تمحيص أو تقييم منطقي.
وعندما قرر الرئيس ترامب تغيير مسمى وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب ، في خطوة أثارت الدهشة والاستغراب، كان يقصد في حقيقة الأمر إرسال رسالة ترهيب للعالم ، مفادها أن الولايات المتحدة تمتلك قوة لا تضاهى ، قوة لا تستطيع أي دولة أخرى أن تمتلكها أو تستخدمها.
وهذا التغيير لم يكن ضرورة فعلية إذا كان بالفعل يمتلك القدرة العسكرية الضخمة التي يدعيها، ولديه الإرادة الحقيقية لاستخدامها مهما كانت تبعات ذلك من مخاطر وتكاليف كارثية.
فحتى خلال سنوات الحرب الباردة، لم يجرؤ أي رئيس أمريكي على القيام بخطوة مماثلة ، مدركًا مدى العواقب الوخيمة لأي مغامرة عسكرية واسعة ، لذا اختاروا دائمًا الوفاق والتعايش السلمي كنهج استراتيجي ، وكان التهديد بالحرب هو آخر ما يلجأ إليه أي قائد.
وعندما بدأ ترامب مهامه الرئاسية ، لم يكن يفتأ يطلق تهديداته وانذاراته، موجهًا أصابع الاتهام والوعيد إلى دول مثل كندا وبنما والمكسيك والدنمارك وإيران وأفغانستان، مهددًا بالاحتلال والضم وبـ”الجحيم” لكل من لا ينصاع لأوامره أو لسياساته. لكن كل هذه التهديدات، التي شغلت العالم في ذلك الوقت وأشعلت المخاوف، سرعان ما تبخرت واختفت من واقع التنفيذ، إذ لم يجرؤ الرئيس على تطبيق أي تهديد فعلي، وتراجع عن مواقفه المتشددة بسرعة، ولم يعد يستخدم هذه اللغة الاستعمارية الاستفزازية التي لم يعد للعالم أي صبر أو قبول بها. وهكذا ، تلاشت كل التهديدات التي بدا أنها تشكل كارثة محتملة على الساحة الدولية، واندثرت من ذاكرة العالم كما لو لم تكن موجودة من الأساس.
أما حربه مع إيران في يونيو الماضي ، فقد كانت محدودة للغاية، أكثر من كونها مواجهة حقيقية، إذ اقتصرت على غارتين خاطفتين لطائرتين شبحيتين على منشأة نووية واحدة، ثم انسحبتا، بينما حرص ترامب، كعادته، على تضخيم هذه العملية وتسويقها إعلاميًا على أنها إنجاز كبير ، في حين أن الوقائع على الأرض كانت تفضح هذا التضخيم. فلم تنهار إيران ، ولم يسقط نظامها، ولم يتوقف برنامجها النووي، ولم يثور شعبها ضد حكومته، بل على العكس، استعادت إيران بسرعة كل ما خسرته ، وأعاد برنامجها العسكري والنووي بوتيرة أسرع من السابق.
وهكذا أعطت هذه الوقائع شهادة صريحة على فشل تلك الغارات والاستعراض العسكري، كما كان الحال مع تدخلاته في اليمن ضد الحوثيين ، حيث لم تُحدث أي من هذه العمليات تغييرًا جوهريًا على الأرض ، وظلت كل الصراعات كما هي ، ولم تتحقق أي نتيجة ملموسة.
ولذلك يمكن القول بثقة كاملة إن الرئيس ترامب لن يخوض حربًا مع أي دولة ، سواء كانت كبيرة أو صغيرة ، طوال فترة رئاسته الحالية. هناك عدة أسباب لذلك ، أهمها محدودية استعداده للمخاطرة، وطبيعته الاستعراضية التي تركز على الأقوال الرنانة أكثر من الأفعال الفعلية التي يمكن أن تجعل تهديداته ذات مصداقية وجدية.
كما أن الرأي العام الأمريكي ، وربما هذا الأهم ، يكره الحروب ويمقتها ، بعد التجارب المؤلمة في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق والصومال، وهو ما يجعل أي مغامرة عسكرية محفوفة بالمخاطر أمرًا مستبعدًا للغاية ، حتى لو كان الهدف هو فنزويلا، حيث بات من الصعب تصور ترامب يخاطر بالدخول في حرب معها بالنظر إلى تردده وتباطئه الواضح عن تهديداته.
ولذا، يبقى أمامه خيار واحد فقط يمكنه اللجوء إليه كأداة ضغط وتهديد، وهو استخدام العقوبات الاقتصادية القاسية والعنيفة، تلك التي لم يسبق لأي رئيس أمريكي أن استخدمها بهذا الشكل الشامل والعنيف ، كما يحدث مع روسيا وإيران. وهذه هي حدود قدراته الفعلية على الساحة الدولية.
وللأسف ، إذا كانت الدول العربية قد فهمت حقيقة ترامب ، وأن تهديداته لا تتجاوز الكلام ولا تتحول إلى أفعال ، لما ضاعت كل تلك التريليونات من الدولارات التي دفعت له بغرض إرضائه ، ولما كان من الممكن استثمار هذه الأموال في مواجهة الفقر والتخلف والمجاعات ، وفي تعزيز الاستقرار ومكافحة العنف والإرهاب ، وفي بناء مستقبل أفضل لشعوب المنطقة ، بدلًا من إنفاقها على أوهام وهمية لا تحقق شيئًا على الأرض.
وعليه ، يبقى السؤال المحوري: ماذا قدم ترامب للعرب مقابل كل ما أخذ؟ والإجابة المؤلمة هي : لا شيء، سوى وعود معسولة بسلام قد لا يعرف طريقه أبدًا إلى منطقتنا.




