✍️ يوحنا عزمي
في الساعات الأخيرة التي سبقت الفجر، كانت السماء فوق أوكيناوا اليابانية على وشك أن تصبح شرارة لاشتعال صدام إقليمي ضخم ، صدام كان كفيلًا بأن يغير ملامح شرق آسيا ويعيد رسم خريطة القوى في المنطقة.
تخيل اللحظة : الظلام كثيف ، البحر تحتك يبتلع الضوء، والهدوء يخفي خلفه توترًا متصاعدًا .. ثم فجأة ، في قلب هذه العتمة ، يتلقى طيار ياباني على متن مقاتلته الـF-16 إنذاراً حاداً يمزق صمت المقصورة. جهاز التحذير الإلكتروني في الطائرة يعلق بأنفاسه ، يخبره بأن أحدهم “أقفل عليه” بالرادار. وبمجرد أن يلتفت الطيار نحو الشاشة أمامه ، تتجسد أمامه الحقيقة : مقاتلة صينية J-15 تتقدم نحوه، وتثبت نظام التصويب عليه بدقة جندي على وشك أن يضغط الزناد.
الإنذار الذي سمعه الطيار لم يكن مجرد نغمة مزعجة أو تحذير عابر ، بل كان بمثابة إعلان بأن حياته تُقاس الآن بثوانٍ ، وأن أي حركة خاطئة قد تعني إطلاق صاروخ ومواجهة جوية لا أحد يعرف أين تنتهي. ما جعل الموقف أكثر رعباً أن الاستهداف لم يحدث مرة واحدة ، بل تكرر مرتين متتاليتين ، ما يعني أن المسألة لم تكن خطأً أو مروراً عارضاً ، بل خطوة محسوبة بعناية.
اليابان لم تتأخر في الرد ، فخرجت وزارة الدفاع ببيان غاضب اعتبرت فيه ما حدث تجاوزًا خطيرًا للخطوط الحمراء ، وأبلغت الصين شكوى رسمية تؤكد أن الأمر لن يمر كأنه حادث عابر.
الصين من جانبها أنكرت الرواية بالكامل ، وادعت أن اليابان هي التي بدأت التصعيد حين أرسلت طائراتها للتحليق فوق حاملة الطائرات الصينية “لياونينغ” أثناء تدريبات بحرية حساسة. لكن وسط تبادل الاتهامات ، كان العنصر الأكثر إثارة للانتباه هو الصمت … الصمت الأمريكي التام.
لا الخارجية الأمريكية نطقت ، ولا البيت الأبيض علق ، ولا حتى البنتاغون أصدر بياناً بسيطاً. هذا الصمت بدا مفاجئاً وغريباً ، خاصة أنه يأتي في وقت يشتعل فيه التوتر على بعد كيلومترات قليلة من واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة.
لفهم سبب الغياب الأمريكي ، يجب العودة إلى ما قيل قبل هذا الحادث بساعات في منتدى ريغان الدفاعي في فرجينيا، حين وقف وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث ليلقي كلمة كانت بمثابة إعلان رسمي لمرحلة جديدة في التفكير الاستراتيجي الأمريكي.
قال الرجل بوضوح إن زمن “المثاليات” قد انتهى ، وأن أمريكا لن تستمر في لعب دور الحارس العالمي أو بناء الديمقراطيات البعيدة أو الدخول في حروب لا تخص أمنها المباشر. المرحلة القادمة ستكون “مرحلة الواقعية الصلبة”، مرحلة تضع مصالح الولايات المتحدة فوق أي اعتبار ، وتجعل كل دولة مسؤولة عن حماية نفسها وحل مشاكلها دون إنتظار تدخل أمريكي.
المعنى العميق لهذا الكلام أن العالم مقبل على إعادة توزيع القوى ، وأن أمريكا لم تعد راغبة ولا قادرة على أن تتحمل أعباء الحماية والدفاع عن الآخرين، خصوصًا في ظل أزماتها الداخلية وارتفاع ديونها بشكل غير مسبوق.
العالم ذاته أصبح متعدد الأقطاب رغماً عنها : الصين تمددت في شرق آسيا بلا مقاومة تُذكر ، وروسيا إذلت أوروبا ولم يجرؤ أحد على مواجهتها بشكل مباشر. ومع هذا التحول، عادت واشنطن إلى عقلية “مناطق النفوذ” وبدأت تركز على محيطها المباشر ، كما يظهر الآن في تعاملها مع فنزويلا ومحاولة تغيير نظام مادورو.
في ظل هذا التحول الكبير ، قررت اليابان وأوروبا ألا تنتظر يدًا أمريكية تنتشلها من أزماتها. اليابان بدأت فعلًا إعادة بناء قوتها العسكرية لتصبح قوة إقليمية كبرى قادرة على مواجهة الصين بنفسها ، بدعم من أستراليا وشركاء آخرين في المحيط الهادئ.
أوروبا بدورها تشهد طفرة تسلحية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية : ألمانيا وحدها خصصت ميزانية تتجاوز نصف تريليون دولار لإعادة بناء جيش قوي ، كما أعادت توجيه مصانع القطارات الثقيلة لإنتاج دبابات ومدرعات، وذهبت إلى تل أبيب لتشتري “Arrow 3” لحماية أجوائها من تهديدات الطيران والمسيرات الروسية. حتى شركات التكنولوجيا الألمانية الصغيرة تحولت لإنتاج مسيرات انتحارية استعدادًا لبناء أكبر جيش أوروبي في العصر الحديث.
العالم الآن يتغير بسرعة مرعبة ، مراكز القوى تتشكل ، والتحالفات القديمة تتصدع ، وكل طرف يعيد حساباته كي لا يفاجئه الزمن عاريًا أمام الخطر.
وهنا يتسلل السؤال الذي يفرض نفسه : هل تستطيع اليابان الصمود وحدها أمام الصين لو انفجر الموقف؟ وهل تلحق أوروبا ببناء قوتها العسكرية قبل أن تفرض روسيا نفوذها على القارة كلها؟ أم أننا أمام لحظة تاريخية قد نشهد بعدها أكبر إنقلاب في ميزان القوى العالمية منذ نهاية الحرب الباردة؟




