✍️ يوحنا عزمي
يشير ما يحدث اليوم بين تايلاند وكمبوديا إلى لحظة شديدة الحساسية قد تعيد إشعال واحدة من أقدم النزاعات الحدودية في جنوب شرق آسيا ، بعدما أعلن الجيش التايلندي تنفيذ ضربات جوية على مناطق متنازع عليها، تزامناً مع تأكيده مقتل أحد جنوده وإصابة آخرين خلال اشتباكات مباشرة مع القوات الكمبودية.
هذا التصعيد لم يأتِ من فراغ ، بل هو امتداد لصراع طويل يرسخ جذوره في التاريخ ، ويعود إلى عقود من التوتر وعدم الثقة ، وكأن المنطقة تعيد فتح جراح لم تلتئم رغم مرور السنين.
ورغم أن كثيرين ربما لم يكونوا يعلمون أصل الأزمة ، فإن الخلاف بين البلدين يرتبط بقضية معقدة ومتشابكة تدور حول السيادة على محيط معبد “برياه فيهار” التاريخي، وهو معبد هندوسي عريق يعود للقرن الحادي عشر ويتربع على قمة جرف شاهق في سلسلة جبال دانغريك التي تفصل بين الدولتين.
ورغم أن محكمة العدل الدولية حسمت في عام 1962 مسألة ملكية المعبد نفسه لصالح كمبوديا ، فإن المشكلة لم تنتهِ حينها ولا حتى بعد ذلك بعقود ، لأن النزاع الحقيقي بقي ملتهباً حول الأراضي المحيطة بالمعبد ، وهي مساحة صغيرة نسبياً — لا تتجاوز 4.6 كيلومتر مربع — لكنها بالنسبة لكل بلد تمثل رمزاً قومياً وحدوداً لا يمكن التنازل عنها.
هذا الشريط الجغرافي الضيق تحول خلال العقود الماضية إلى مسرح قابل للاشتعال في أي لحظة ، إذ ترى تايلاند أن هذه الأراضي جزء من سيادتها التاريخية ، بينما تعتبر كمبوديا أن الحكم الدولي يمنحها كامل الحق في السيطرة عليها. ومع كل توتر سياسي أو تغير في المناخ الإقليمي، تعود القوات المتمركزة على الحدود إلى وضع الاستعداد، ويتحول الاحتكاك البسيط إلى اشتباك، ثم إلى تبادل إطلاق نار ، وربما — كما يحدث الآن — إلى ضربات جوية تعيد للأذهان الاشتباكات الدامية التي شهدها نفس المكان في أعوام سابقة.
وتتصاعد خطورة الموقف لأن الأزمة ليست مجرد خلاف حدودي صامت ، بل هي مشحونة بمشاعر قومية في كلا البلدين ، تُغذيها روايات تاريخية متعارضة، وتستثمر فيها القوى السياسية المحلية لتعزيز نفوذها. ومع كل جندي يسقط ، وكل حادثة صغيرة تتضخم تحت ضغط الإعلام والرأي العام ، يصبح السلام على الحدود هشاً إلى حد مخيف ، وكأنه مجرد هدنة مؤقتة يمكن أن تنهار عند أول احتكاك غير محسوب.
لذلك فإن السؤال لم يعد فقط : ماذا يحدث الآن؟ بل إلى أين يمكن أن يؤدي هذا التصعيد؟ هل سيبقى في نطاق المناوشات المحدودة كما حدث مراراً في السابق ، أم أننا بالفعل أمام بداية حرب جديدة قد تغير ملامح الاستقرار في جنوب شرق آسيا بالكامل؟




