✍️ يوحنا عزمي
تبدو قضية تايوان في الخطاب الصيني وكأنها بند سياسي أو جغرافي يمكن التفاوض عليه ، لكنها في الحقيقة تمثل بالنسبة لبكين حجر الأساس لمستقبلها كقوة كبرى.
فمن دون تايوان ، لا تستطيع الصين ـ وفق رؤيتها هي ـ أن تنتقل من دولة صاعدة إلى قطب عالمي قادر على منافسة الولايات المتحدة في قلب النظام الدولي الجديد.
الأمر ليس شعارات قومية ولا أحلاماً رومانسية عن “الوحدة التاريخية”، بل معادلة استراتيجية تتقاطع فيها التكنولوجيا والجغرافيا والاقتصاد والأمن القومي في صورة واحدة يصعب الفصل بين عناصرها.
فالجزيرة الصغيرة التي تمتد على حدودها الشرقية تحمل في داخلها ما يشبه “كنزاً استراتيجياً” تتصارع عليه القوى الكبرى : صناعة الرقائق الإلكترونية فائقة التقدم. هذه الصناعة لا تمثل مجرد منتج اقتصادي، بل هي العمود الفقري لكل ما يحرك العالم الآن : السلاح الذكي، الذكاء الاصطناعي، الصواريخ، الروبوتات، الفضاء، والاقتصاد الرقمي.
والمفارقة المدهشة أن الولايات المتحدة والصين، رغم حجم قوتيهما ، تعتمدان على تايوان في استيراد هذه الرقائق الدقيقة. فقد سبقت تايوان الجميع بعقود من البحث والتطوير ، وأحرزت تفوقاً معرفياً وصناعياً لا تملكه بكين ولا واشنطن ، حتى اليوم.
ولهذا ترى الصين أن السيطرة على تايوان ليست مجرد خطوة لتوحيد أراضٍ ، وإنما مفتاح لامتلاك الصناعة التي ستحدد من يقود العالم خلال العقود المقبلة. فتايوان تتقدم على الصين بما يقارب عشرين عاماً في المعرفة التكنولوجية الخاصة بهذه الشرائح ، وإذا وضعت بكين يدها على المصانع والعقول والبيانات والقدرات المرتبطة بها ، فإن ذلك يمنحها دفعة استراتيجية قد تغير ميزان القوى العالمي بشكل جذري.
وفي المقابل ، تدرك الولايات المتحدة أن خسارة تايوان لصالح الصين تعني ببساطة السماح لخصمها الأساسي بالحصول على أهم منشأة تكنولوجية على الكوكب، ولذلك تعمل بكل الطرق لإبقاء الجزيرة خارج القبضة الصينية، وفي الوقت ذاته تحاول ـ بصعوبة شديدة ـ نقل الصناعة إلى أراضيها.
لكن الحقيقة الأكثر صدمة هي أن السيناريو الأخير الذي تحتفظ به واشنطن لنهاية اللعبة، في حال أدركت أن الصين ستسيطر على الجزيرة لا محالة، هو قصف مصانع الرقائق في تايوان نفسها لضمان عدم وقوعها في يد الصين. هذه الفكرة القاسية تلخص كيف ينظر العالم إلى قيمة تايوان : ليس كجزيرة ، بل كمركز عصبي للاقتصاد العالمي.
من الناحية العسكرية ، تبدو تايوان هدفاً يمكن للصين إسقاطه بضربة سريعة ومدروسة، لكنها في الوقت ذاته قلعة معقدة. فمنافذ الهبوط المحدودة تجعل الدفاع عن الجزيرة أسهل ، بينما تجعل الهجوم عليها عملية محفوفة بالمخاطر، وقد تتحول في حال التنفيذ غير المحسوب إلى مستنقع يستنزف الصين ذاتها ويعيد عقارب حلمها العالمي إلى الوراء. وتعرف بكين هذه الحقائق جيداً ، لذلك تعمل على دراسة السيناريوهات منذ سنوات طويلة ، وتبحث عن الطريقة التي تجعل أي تحرك عسكري خاطفاً وقاطعاً قبل أن يتشكل رد دولي واسع يشبه ما حدث في أوكرانيا، وهو السيناريو الذي تعتبره الصين كارثياً إذا تكرر في شرق آسيا.
أما الجبهة السياسية ، فهي تسير بخطوات أهدأ لكنها لا تقل أهمية. فالصين تعمل على تغيير المزاج العام داخل تايوان، وتسعى لتقوية التيار الداعم لفكرة “الصين الواحدة”، وقد بدأت بالفعل ملامح هذا التحول تظهر ، ما يمنح بكين أملاً في تحقيق الضم بوسائل سلمية ، ويجعلها أقل احتياجاً للمغامرة العسكرية ذات التكلفة العالية.
وإلى جانب التكنولوجيا والسياسة ، تأتي الجغرافيا لتكمل الصورة. فتايوان جزء أساسي من “سلسلة الجزر الأولى” التي تستخدمها الولايات المتحدة لتطويق الصين ومنع تمدد نفوذها البحري. السيطرة الصينية على تايوان تعني اختراق هذا الطوق ، وفك الحصار البحري ، وفتح الباب أمام وصول الصين إلى المحيطين الهادي والهندي بحرية أكبر. وهذا بالضبط ما يجعل تايوان بالنسبة للصين قضية وجودية وليست خياراً سياسياً.
في النهاية ، يبدو أن بكين تسير نحو ضم تايوان سواء بالطرق السلمية أو عبر القوة إذا اضطرت. عدم حدوث ذلك يعني فشلاً استراتيجياً ضخماً للمشروع الصيني كله ، أما حدوثه فيعني أن العالم سيدخل مرحلة جديدة تُعاد فيها صياغة موازين القوى على مستوى الكوكب. ولهذا أصبحت تايوان ليست مجرد نقطة على الخريطة ، بل أحد مفاتيح التغيير الكبرى في النظام الدولي القادم.




