✍️ يوحنا عزمي
في القرن العشرين كانت الحروب تُخاض من أجل السيطرة على الأرض ، ثم تحولت لاحقاً إلى صراعات على النفط، وبعدها أصبح النفوذ السياسي والعسكري هو المحرك الأساسي للاشتباكات بين الدول ، لكن القرن الحادي والعشرين يشهد انتقالًا أخطر وأكثر هدوءًا نحو نوع جديد تمامًا من الصراع ، صراع لا تُسمع فيه أصوات المدافع ولا تتحرك فيه الدبابات ولا يُعلن رسمياً كحرب ، ومع ذلك يملك القدرة الكاملة على تغيير مصير دول وشعوب بأكملها ، إنه صراع المياه.
هذه الحرب لا تأتي فجأة ولا تضرب بضربة واحدة، بل تتحرك ببطء شديد ، تتسلل إلى بنية الدولة واقتصادها ومجتمعها، وتفعل ما لم تنجح الجيوش في تحقيقه عبر التاريخ.
المشكلة الأولى أن البشرية كلها تعيش على وهم كبير اسمه وفرة المياه ، فالأرقام الصلبة تكشف حقيقة صادمة ؛ 97% من مياه كوكب الأرض مالحة لا تصلح للشرب أو الزراعة ، و2.5% فقط هي مياه عذبة، ومن هذه النسبة الضئيلة هناك 68% محتجزة في الجليد والقمم المتجمدة ، ونحو 30% مخزنة كمياه جوفية يصعب الوصول إليها أو استنزافها دون مخاطر ، بينما أقل من 1% فقط هو المتاح فعليًا للاستخدام البشري المباشر.
هذه النسبة الهزيلة تقوم عليها كل الحضارة الإنسانية، كل الزراعة، كل الصناعة ، وكل المدن التي نعرفها ، وذلك قبل أن نضيف عوامل خطيرة مثل الزيادة السكانية المتسارعة، والتغير المناخي ، وموجات الجفاف ، والاستهلاك الصناعي الجشع ، والزراعة التي تلتهم كميات هائلة من المياه دون حساب.
مراكز الدراسات الاستراتيجية لا تتعامل مع هذا الملف كقضية بيئية فقط ، بل كأحد أخطر مفاتيح الانهيار العالمي المحتمل ، فالتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والبنك الدولي تشير إلى أن الطلب العالمي على المياه سيزيد بنحو 40% بحلول عام 2040، وأن أكثر من أربعة مليارات إنسان سيعيشون تحت ضغط مائي شديد ، بينما يعتمد نحو 60% من الزراعة العالمية على أنهار مشتركة بين دولتين أو أكثر.
هذه الحقيقة وحدها تعني أن أي تغيير يحدث في منبع نهر ليس مجرد مشروع تنموي أو قرار سيادي ، بل هو تعديل مباشر في ميزان القوة السياسية ، وربما في مستقبل دولة المصب بالكامل.
هنا تظهر خطورة السدود ، التي تحولت في هذا العصر إلى سلاح استراتيجي يفوق في تأثيره كثيرًا من الأسلحة التقليدية ، لأن السد يبدو في شكله مشروعاً تنموياً بريئاً ولا يوجد قانون دولي صارم يمنع بناءه أو يفرض عقوبات فورية على آثاره ، كما أن ضرره لا يكون لحظياً أو دموياً بل ممتدًا وبطيئًا.
السد لا يقتل فجأة ، لكنه يخنق على مهل ، خفض تدفق المياه بنسبة 10% قد يخلق توترًا، و20% تتحول إلى أزمة حقيقية، و30% تصبح تهديداً وجودياً ، والأخطر من ذلك أن السد يخلق تبعية دائمة ، لأن الدولة الواقعة أسفله تصبح حياتها كلها مرهونة بقرار سياسي من دولة المنبع، فتعيش على منحة لا على حق.
الصراع لم يعد مجرد خلافات حول تقاسم المياه، بل انتقل إلى مرحلة أخطر يمكن تسميتها بهندسة العطش، حيث بدأت الدول تعيد تشكيل الجغرافيا المائية نفسها عبر بناء سدود عملاقة ، وتغيير مجاري أنهار، والتخزين طويل الأمد، والتحكم في توقيت تدفق المياه لا كميتها فقط. هذا الواقع يخلق وضعًا غير متكافئ تعيش فيه دولة المنبع في وفرة نسبية ، بينما تدخل دولة المصب في حالة عطش مزمن، والعطش المزمن لا يعني فقط نقص المياه ، بل سلسلة متتالية من الأزمات تضرب الزراعة، وترفع الأسعار، وتخلق بطالة، وتفجر غضباً اجتماعياً ، وتُضعف الدولة من الداخل دون إطلاق رصاصة واحدة.
الأمثلة على ذلك ليست افتراضات نظرية، بل وقائع ملموسة تتكرر حول العالم. نهر النيل ، الذي تشترك فيه إحدى عشرة دولة ويعتمد عليه أكثر من 300 مليون إنسان ، تمثل مصر فيه نموذجًا شديد الحساسية ، إذ تعتمد على النيل بنسبة تقارب 95% من احتياجاتها المائية ، ما يجعل أي نقص ولو بسيط يتحول فورًا إلى قضية أمن قومي.
في دجلة والفرات ، بنت تركيا أكثر من 22 سدًا، ما أدى في فترات معينة إلى انخفاض تدفق المياه إلى العراق بنسبة تجاوزت 50%، وكانت النتيجة تصحرًا واسعاً ، وهجرة داخلية ، وضغطاً اقتصادياً هائلًا، دون أن تُعلن حرب أو تُرفع راية صراع مباشر ، لكن دولة كاملة دخلت في مسار إنهاك طويل.
وفي آسيا ، تتحكم الصين في منابع أنهار تمس حياة نحو 1.5 مليار إنسان ، بينما تقترب مدن هندية كبرى من ما يُعرف بـ”يوم الصفر” الذي تنفد فيه المياه، وتتراكم النزاعات المائية الداخلية والإقليمية بصمت خطير.
الأزمة تتفاقم أكثر بسبب الفراغ القانوني الدولي، فالعالم يضم نحو 276 نهرًا دولياً ، لكن أقل من 20% فقط منها يخضع لاتفاقيات ملزمة حقيقية ، بينما تعتمد الأغلبية على قواعد استرشادية بلا عقاب فعلي ، ما يعني أن من يسبق ويبني السدود يفرض الأمر الواقع ، ويحول المياه من حق إنساني أساسي إلى أداة نفوذ سياسي خالص.
وعندما تجتمع السدود مع الجفاف الناتج عن التغير المناخي، ومع الزيادة السكانية ، ومع احتياجات الزراعة المتصاعدة، ومع الصناعة التي لا تتوقف عن السحب ، تصبح المياه في مناطق واسعة من العالم أندر من النفط نفسه ، وهنا يصبح سد واحد قادرًا على تغيير مصير أجيال كاملة ، لا مجرد موازنة موسم زراعي.
مراكز القرار ترسم سيناريوهات انهيار تبدأ عادة بنقص مائي يتراوح بين 15 و20%، يتبعه انهيار زراعي تدريجي ، ثم زيادة الاعتماد على الاستيراد ، ثم ضغط متصاعد على العملة ، فارتفاع البطالة ، ثم احتجاجات اجتماعية ، يليها عدم استقرار سياسي ، وصولًا إلى تدخلات خارجية بأشكال مختلفة. هذا النوع من الانهيار لا يحدث فجأة ، بل يتسلل ببطء ، ناعم في شكله ، قاتل في أثره.
العالم اليوم ينقسم عملياً إلى ثلاث فئات من الدول؛ دول مائية آمنة تمتلك مصادر متعددة، وتقنيات تحلية، وقدرات تخزين، وتكنولوجيا متقدمة، ودول مائية هشة تعتمد على نهر واحد أو منبع خارجي أو اتفاقيات ضعيفة، ودول مائية منهكة تعاني استهلاكاً مرتفعاً وموارد محدودة ونموًا سكانيًا سريعًا. هذا التصنيف هو الذي سيحدد من سيستمر ومن سيتراجع في العقود القادمة.
في النهاية ، نحن لا ندخل عصر النفط ولا عصر السلاح ولا حتى عصر التكنولوجيا وحدها ، بل ندخل عصر السيطرة على شروط الحياة نفسها. المياه لم تعد مجرد مورد طبيعي، بل أصبحت قرارًا سياسيًا، ونفوذًا استراتيجياً ، وأداة حكم غير معلنة. والدولة التي لا تحمي أمنها المائي تشبه دولة تركت حدودها مفتوحة ، لكن دون ضجيج أو أصوات رصاص.
الأخطر من كل ذلك أن هذه الحرب تدور بالفعل، بينما يفتح معظم الناس صنابير المياه كل يوم، معتقدين أن كل شيء يسير بشكل طبيعي، في حين أن المعركة الحقيقية تُخاض في صمت.




