✍️ يوحنا عزمي
خلينا نبص على المشهد بهدوء ، من غير ضجيج العناوين ولا زحمة التحليلات السريعة.
السؤال اللي شاغل الكل دلوقتي مش مجرد خبر بروتوكولي ولا لقطة دبلوماسية عابرة ، لكنه سؤال تقيل الوزن فعلاً : هل السيسي هيتقابل مع نتنياهو في أمريكا ولا لأ؟
السؤال ده لوحده كفيل يفتح كل ملفات الشرق الأوسط دفعة واحدة ، من غزة لإسرائيل لمصر ، وصولًا لواشنطن نفسها ، لأن أي لقاء من النوع ده مش بيحصل كده والسلام، ده بيبقى لحظة فاصلة بتترتب عليها خرائط ، وتحالفات ، وقرارات مصيرية.
اللي ظاهر للناس إن في مفاوضات ، لكن اللي تحت السطح إن مصر بتشتغل بعقلية مختلفة تمامًا.

في البداية كان الكلام داير حوالين شرط واحد، صفقة الغاز، وناس كتير افتكرت إن ده سقف المطالب. بعدها فجأة ظهر شرط أخطر : إنسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من محوري نتسريم وفيلادلفيا. ومع الوقت، السقف نفسه اتشال، واتحط مكانه شرط ثالث هو الأخطر والأثقل ، شرط لوحده كفيل يقفل أي باب للتفاهم ، وهو إعلان رسمي من إسرائيل عن بدء المرحلة الثانية في غزة. المرحلة دي مش بند في ورقة، دي حزمة كاملة معناها إنسحاب شامل من القطاع ، وبدء فوري لإعادة الإعمار ، وفتح معبر رفح من الجانبين ، ودفن ملف التهجير نهائياً ، وعودة كل الفلسطينيين اللي خرجوا من بيوتهم. ببساطة ، دي شروط معناها إن إسرائيل تتراجع خطوة كبيرة جدًا ، خطوة الحكومة الحالية أصلًا مش مستعدة تفكر فيها.
وهنا لازم نسأل: ليه الشروط دي بالشكل ده؟ وليه التوقيت ده؟ المفاجأة الحقيقية جاية من ملف تاني خالص ، ملف الطاقة.
التسريبات بتتكلم عن إن مصر على وشك الإعلان عن واحدة من أكبر صفقات إستيراد الغاز من قطر ، صفقة طويلة الأجل وبأرقام ضخمة. الصفقة دي في حد ذاتها مش مجرد تعاون اقتصادي ، دي رسالة سياسية مباشرة، معناها إن مصر قررت تقفل باب الغاز الإسرائيلي بإرادتها.
صفقة الغاز اللي كان نتنياهو بيقدمها كإنجاز استراتيجي وبيتكلم عنها كرقم ضخم ، اتشالت من الحسابات. مش لأن الغاز القطري أرخص ، لكن لأن الرسالة أهم من السعر : مصر مش مضطرة تعتمد على إسرائيل ، ومش محتاجة تقعد على أي طاولة إلا بشروطها هي.
النتيجة إن نتنياهو دلوقتي عنده غاز في الحقول الجديدة، لكن من غير منفذ حقيقي. مفيش محطات إسالة ، مصر قفلت الباب ، وأوروبا لسه مش جاهزة تاخده بالشكل اللي هو عايزه. الغاز اللي كان مفروض يبقى ورقة قوة ، بقى عبء ، وبقى نقطة ضعف بدل ما يكون مكسب. وده كله بيخلي فكرة اللقاء نفسها تهتز.
التقدير الواقعي بيقول إن احتمالية اللقاء ضعيفة جدًا، وإن الشروط اللي اتحطت مش معمولة أصلًا عشان تتنفذ، لكنها معمولة عشان تقول “لا” من غير ما تتقال. مصر مش عايزة تطلع قدام واشنطن أو قدام ترامب تحديدًا على إنها الطرف اللي رفض ، فبتقدم قائمة مطالب عارفة مسبقًا إن نتنياهو مستحيل يوافق عليها ، وبالتالي اللقاء يقع تلقائياً من غير صدام مباشر.
ولو دخلنا في عمق الشروط نفسها هنفهم ليه هي مستحيلة. محور فيلادلفيا تحديدًا هو جدار الأزمة الحقيقي بالنسبة لنتنياهو. الخروج منه معناه سقوط سياسي داخلي، ومعناه صدام مباشر مع اليمين الإسرائيلي اللي شايف المحور ده كحدود أمنية جديدة لإسرائيل. نتنياهو بنفسه قال أكتر من مرة إنه مش هينسحب حتى لو الحرب خلصت ، يعني من الأساس هو مش ناوي يدخل المرحلة الثانية اللي العالم كله مستنيها. في الحالة دي، طلب مصر مش صعب، ده غير قابل للتنفيذ من جذوره.
أما شرط المرحلة الثانية ، فهو أكتر شرط بيقلق إسرائيل بدل ما يطمنها. وقف نار شامل ، إنسحاب كامل ، إعادة إعمار، عودة السكان، وبقاء غزة ككيان موجود مش ممسوح من الخريطة. ده كله ضد توجه الحكومة الإسرائيلية الحالية اللي شغالة بمنطق “لا دولة فلسطينية ، لا إعمار ، ولا هدوء حقيقي”. الشرط ده لوحده كفيل يخلي نتنياهو يبعد عن أي لقاء ، والسيسي عارف ده كويس ، وبيقدمه قدام واشنطن على إنه الطرف اللي قدم الحل، بينما الطرف التاني هو اللي رفض.
وما ننساش صفقة الغاز ، اللي تعتبر الضربة القاضية في اللعبة دي. نتنياهو كان داخل على واشنطن وهو متوقع يقول إن مصر بتاخد الغاز الإسرائيلي ، وإن ده دليل على إستقرار العلاقات. لما مصر تختار قطر، الورقة دي اتحرقت.
آخر نقطة قوة كان ممكن يلوح بيها قدام ترامب اتسحبت منه قبل السفر. دلوقتي هو لا قادر يضغط على مصر ، ولا قادر يطلع بصورة المنتصر.
وفي كل ده ، في عامل إعلامي خطير مصر واخدة بالها منه. أي لقاء ، خاصة على منصة أمريكية ، كان هيتحول فورًا لمشهد دعائي لنتنياهو. صور ، تصريحات ، إعلام إسرائيلي يقول إن مصر بتدعمه بعد حرب غزة ، وإنه رجع للمشهد الدولي. بالنسبة له دي قيمة سياسية ضخمة ، لكن بالنسبة لمصر دي مجرد لقطة من غير مضمون. السيسي مش عايز صورة، عايز حل. ولو مفيش حل حقيقي على الأرض، يبقى مفيش مبرر للقاء من الأساس.
رغم كل ده ، لسه في نسبة صغيرة إن اللقاء يحصل ، حوالي عشرين في المية. النسبة دي مرتبطة بضغط مباشر من ترامب ، ورغبة أمريكية في جمع الطرفين في صورة واحدة، مع إدراك واشنطن إن مصر هي مفتاح أي تسوية في غزة.
الإحتمال ده ممكن يتحقق بس لو كان في ضمانات حقيقية، أو على الأقل التزام رسمي موثق بالشروط ، مش وعود فضفاضة.
في النهاية ، الصورة واضحة. مصر مش بتهدد ، ومش بتناور من فراغ. الرسالة لنتنياهو مباشرة وبلا زينة : السلام مش كلام ولا صور ، السلام التزام حقيقي. وصفقة الغاز القطرية، ومعها الشروط اللي لا يمكن لأي حكومة إسرائيلية حالية قبولها، بتقفل الباب بهدوء ومن غير ضجيج، وبتخلي الطرف التاني هو اللي يتحمّل مسؤولية الرفض ، من غير ما مصر تظهر كإنها انسحبت أو تهربت.




