رحمة خميس
كأنني أسير في متاهة لا مخرج لها، كل طريق أسلكه يقودني لفراغ جديد.
صوت خافت في أعماقي يهمس: “لن تصلِ أبدًا، لا جدوى من المحاولة معها”.
اتشكّك في كل قرار، وكل خطوة تصبح ثقيلة مثقلة بالريبة.
كأن الشيطان يعزف على أوتار ضعفي، يغرقني في وهم الهلاك.
لكن رغم ذلك، هناك شعاع خافت بعيد، ذكرني أن النور ينتظر الصابرين مثلي.
في مرسم صغير تغزوه لوحاتي المستنسخة من كل لوحات فناني العالم. تقبع هنا لوحتي لـ الموناليزا، وهناك لوحة “العشاء الأخير، وخلفي لوحة الخريف المتناقض، وغيرهم من لوحات احتفظ بها، وأرى بها العالم من مرسم تغمره روائح الألوان والزيوت.
أعمل في صمتي الدائم تحت أنظار والدتي، وفي عينها مزيج من الفتنة والاستغلال، ولِمَ لا؟ لأنها تعيش حياةً مُرفّهة بُنيت على خداع والتواء.
نعم، أنا “ليلى” التي تعيش في ظل والدتها، التي تبيع أعمالها الفنية على أنها لوحات أصلية تشتريها من الويب المظلم، لكنها بنهاية المطاف تخرج من مرسم صغير، مرسم مليء بخداع.
أحمل عبء الموهبة التي لم أستطع الإعلان عنها. في كل مرة تخرج لوحتي للعلن كانت تخفي معها ألم زائف، وأحيانًا خفي.
في كل مرة ابتسم عند استلام قيمة اللوحة، يتبعني صوت خفي خبيث: “تحتاجين إلى المال، وهذه ليست جريمة. الفن الحقيقي لا يعرف قوانين.
تتبعين والدتك لسنوات، وتكسبين الأموال الذي وصل حد الثراء، وما زلتِ تفكرين بالعودة إلى طريق الله؟ هل سيتقبل الله توبتك؟ ترسمين المُحرّم، وتقومين ببيع الزيف، وتكسبين الثراء، وبعد خمسة سنوات تريدين العودة؟”
افيق لصوتٍ يجتاحني آخر: ما هذه المذلة؟ تفقدين نفسك وقيمتك شيئًا فشيئًا. وظل والدتك يحجب عنك الضوء الساطع.
هذه والدتي التي تحت قدميها الجنة؟ التي يجب أن افتخر بها؟
كيف لي أن أصمت كل هذا الوقت عن الطُعم المزيف الذي أكله الجميع؟
كيف سأقابل ربي حين يستردني في وقتي؟
يأتيني هذا الصوت الخبيث مرة أخرى وبمباغتة قوية: “كيف لأنامل الذهب مثل أناملك أن تتراجع في هذا الوقت؟ يمكنك العودة إلى الله، ولكن بعد هذه اللوحة فقط”.
لكنه لم يكن وسوسة شيطان هذه المرة، بل التلميذة النجيبة له “أمي،” بذكائها الحاد وعينيها المتوقدتين، لم تكن أمًا فحسب؛ بل كانت نموذجًا معقدًا. عندما تتحدث عن المال والشهرة، يظهر خلف كلماتها جرح قديم وندم دفين. كانت تقول:
“لم أحصل على فرصة في حياتي. لن أتركك تعيشي مثلي.”
لكن كلماتها كانت مزيجًا من الحب والسيطرة، من الحماية والاستغلال. والتي لم تكاد أن تُكمل كلمتها واقتحمت الشرطة المرسم.
تم القبض على والدتي بتهمة التزوير والاحتيال. في تلك اللحظة، أدركت أن كل حلم رسمته قد تحول إلى كابوس، ألقي بأمي في السجن.
ولكن السجن لم يمنع أمي من ممارسة تحكمها الأخير كدمية في يدها، وتم إصدار مذكرة ضبط لي، حتى استسلم وأُسجن نيابةً عنها، وستقوم بتعيين محامي ليدافع عني.
في ظُلمة الليل، وقبل أن يتم اعتقالي، وعقل مليء بالندم والخوف. امشي وأنا مثقلة
بهموم تفوق عمري. أصرخ بشدة وسط الطريق، وتنهمر دموع الندم مني: أهذا ما أردتني أن أفعله دومًا أيها اللعين، أن أقطع حبال الدمية وأخرج لهذا الجحيم؟
ويأتي معها ذاك الصوت: “هذه فرصتك للهرب، الهرب لحياة أفضل، هناك عميلة تريد لوحة دافنشي المُلقاة في السرداب، ستُباع بسعر يرفعك للسحاب، هذه فرصتك، ثم توبي إلى الله”.
وفجأة، أشعر بتلاشي جسدي للهاوية، مع سيارة تأتي مسرعة في ظُلمة الليل الذي يشبه قلبي.
شعرت بأنفاسي تتلاشى، بينما ذكرياتي تمر أمام عيني كلوحة مشوشة. لكن بدلاً من هذه النهاية المعتادة، وجدت نفسي استيقظ في غرفتي القديمة، قبل عام من هذه الحادثة.
لم أنا هنا؟هل هذا حلم؟ أم حصلت على فرصة ثانية؟
أعتقد ذلك، إنها فرصة لاسترداد ما تبقى من بياض الثلج في قلبي.
أذهب في مؤتمر صحفي في المرسم الذي تقبع به رسماتي المزيفة، يجتمع معها لأول مرة
قلب مليء برضا الله، ويريد توبةً نصوحة.
تقف والدتي خلف الصحفيين ترمقني بنظرات هلاك حاد.
لأذهب إليها وسط عيون الصحافة التي تسجل هذه اللحظات وأحتضنها لأقول:
“لن أرسم الزيف بعد الآن. أريد أن أعيش بشرف افتقدته بواسطتك وسط معترك الحياة”.
لأذهب معها إلى وسط الحضور لتسليم أنفسنا للشرطة؛ لعقاب نستحقه.
فجر جديد
بدأت رسم لوحات تعبر عن نفسي ولأول مرة. كانت كل ضربة فرشاة تحمل معها مشاعري، حضوري، جاذبيتي.
حاولت عرضت أعمالي في معرض صغير، ولاقت صدى كبير. ولكنها رسومات تبتعد عن ذات الأرواح، كانت هذه أول مرة أشعر معها بكلمة “حرة”.
يراودني هذا الصوت الخبيث كل حينٍ وآخر، يعرض على عقلي صفقات ستذهب بي لأمي في سجن القناطر، عنبر ٥٠٣ للاحتيال.
ليلى الجديدة تعيش الآن بشغف، عازمة على تعويض ما فات. كانت لوحاتي تمثل النور الذي خرج من الظلام، ورسالة لكل من يراها أن الطريق الصحيح، وإن كان صعبًا، هو الوحيد الذي يستحق العناء.
وأن صوت إبليس الذي يزهو على غرورنا، ويلعب في جشعنا يحاول إظهار النوايا الطيبة كذريعة لتبرير الأفعال التي تضعف إيماننا تدريجيا.