✍️ يوحنا عزمي
في هذا الزمن ، إن أردت لقضية أن تُحسم بسرعة ، فلا تبحث عن العدالة ، بل اجعلها قضية “رأي عام”. اصنع لها وسماً ، حفز العواطف أشعل الغضب الجماهيري ، ثم اجلس لترى القانون وهو يُداس تحت أقدام الهتاف.
قضية ياسين نموذج فاضح لهذا العبث. محاميه طالب بتعويض مئة ألف جنيه ، دون أن يقدم دليلاً واحداً. مجرد ادعاءات ، بلا قرائن. ألم يكن من الأفضل له أن يأخذ “الثلاثة كيلو دهب” وينهي المسرحية ؟ في المقابل ، المحامي الآخر أعلن أن موكله مُفلس.
فهل نحاكم الناس على نواياهم أم على حساباتهم البنكية؟
ثم جاءت المحكمة ، فحكمت .. من أول جلسة. بلا دراسة ، بلا مناقشة ، بلا أدلة. كيف؟ النيابة كانت قد حفظت المحضر ثلاث مرات متتالية لعدم وجود دليل ، وتقرير الطب الشرعي لم يُثبت شيئاً. فبأي منطق أصدرت المحكمة حكمها ؟ وعلى أي سند قانوني استندت؟
يقولون إن “العدالة لا تُصنع بالصراخ ، بل بالدليل”، لكن يبدو أن صوت الجمهور بات أعلى من صوت القانون. تذكروا محمد عادل القاتل الذي ذبح نيرة أشرف أمام الكاميرات ، واعترف بجريمته. ومع ذلك ، استغرق الحكم عليه عاماً كاملاً ؟ لأن الجريمة ، رغم فداحتها ، خضعت لإجراءات عادلة. أما هنا ، فالعدالة تم اغتيالها على مذبح غوغائية وسائل التواصل.
خرج البعض يهتف بالإعدام ، لا بحثاً عن الحقيقة بل عن القصاص. لا يريدون محاكمة مجرم ، بل إغلاق مدرسة. لا يريدون عدالة بل انتقاماً طائفياً. وهنا مكمن الكارثة : حين يتحول ألم طفل بريء إلى وقود لشحن طائفي ، فنحن لا نحمي الضحية ، بل نذبح العدالة معه.
هل نحاكم أفراداً أم ديانات .. مؤسسات أم شائعات ؟
القضاء قال كلمته مرتين : لا دليل ، لا جريمة ، لا إدانة.
لكن هناك من لا يريد قضاءً ، بل مشنقة ، لا يريد قانوناً
بل غضباً أعمى.
ولأن الذاكرة قصيرة والضمائر انتقائية ، فلنذكر :
أين كان المتطوعون من أجل العدالة حين سُحلت سيدة الكرم في الشارع ؟ أين كانت “الضمائر اليقظة” حين قُتل بيشوي ، وترك دمه على الأسفلت وهو يدافع عن شرف أخواته ضد خمس متحرشين؟ لماذا صمت الجميع وقتها ؟
لأن الكاميرات لم تكن حاضرة ؟ لأن القصة لا تخدم صورة البطل على السوشيال ميديا ؟
العدالة لا تعرف المزاج العام. لا تخضع لصرخات الفيسبوك ولا تتحرك بإيعاز من ترند لحظي.
العدالة الحقيقية ليست انتقائية .. والمواقف التي تُبنى على دم الأبرياء من أجل بضع دقائق من المجد الافتراضي ، ليست مواقف بل وصمة عار.
والصمت أمام الظلم … شراكة في الجريمة.
العدالة الحقيقية لا تُستدرج بالعناوين الطائفية ولا تُمارس على أرصفة فيسبوك. القضية إنسانية وأخلاقية أولاً ، ولا بد أن تُفصل عن أي بُعد ديني أو طائفي ، فالجريمة جريمة بصرف النظر عن ديانة الجاني ، والعقوبة تُوقع على الإنسان لا على انتمائه.
هل هذه أول واقعة في مؤسسة تعليمية ؟ بالطبع لا. فلماذا يُراد لهذه الحادثة أن تُصبغ طائفياً ؟ هل لأن هناك من يتربص ببلد متماسك ، ويُزعجه أن يظل نسيجه واحداً رغم الألم؟
ندين كل اعتداء على طفل أو طفلة ، فهذه كوارث أخلاقية تضرب عمق الضمير المجتمعي ، لكن تحويل الفاجعة إلى سلاح فتنة هو خيانة للضحية وللوطن على السواء.
منذ اللحظة الأولى ، خرجت علينا صفحات متطرفة تزرع السم وتبث الشك في مدارس الراهبات والأقباط، رغم أن هذه المؤسسات التربوية تُعد من أرقى صروح التعليم في مصر ، ولم يُرصد فيها أي نمط ممنهج من التجاوزات.
القاتل لا يُدان ببطاقته الدينية ، بل بجريمته ، ويُحاسب كمواطن مصري أمام قضاء نزيه عادل لا يخضع للضغط ولا للتهويل.
ليحفظ الله مصر من شرور الفتنة ، ويحمي أطفالنا
من كل سوء ، ولتعلُ كلمة القضاء فوق كل تشويش .