✍️ يوحنا عزمي
يعيش العالم اليوم لحظة فارقة قد تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، وربما موازين القوى العالمية بأسرها. فمع تصاعد المواجهة العسكرية غير المسبوقة بين إسرائيل وإيران ، تبدو المنطقة برمتها معلقة على خيط رفيع، عنوانه الأبرز: منشأة “فوردو” النووية، الكهف العصي على الاختراق في عمق جبال إيران.
إسرائيل .. خطر وجودي بعد نصف قرن
للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر 1973، تجد إسرائيل نفسها في مواجهة خطر وجودي حقيقي ، يهدد أمنها واستقرارها وربما مستقبلها. فالهجمات الصاروخية والمسيرات الإيرانية ، المستمرة منذ ستة أيام بلا انقطاع ، استنزفت المخزون الإسرائيلي من صواريخ الاعتراض المتطورة مثل “آرو-3” و”مقلاع داوود”، في ظل تكلفة باهظة تقدر بملايين الدولارات لكل صاروخ.
المؤشرات القادمة من تل أبيب تنذر بما هو أخطر : الحديث بدأ في الأروقة العسكرية عن “ترشيد ميداني” لاستخدام الدفاعات ، أي حماية مناطق محددة فقط – مثل تل أبيب ومفاعل ديمونا النووي – وترك باقي المناطق لمصيرها ، في سابقة تنذر بحدوث انهيار استراتيجي غير مسبوق.
غارات جوية بلا جدوى … وكلفة باهظة
ورغم تصعيد الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية، لم تحقق العمليات العسكرية هدفها الاستراتيجي المعلن : لا المشروع النووي توقف، ولا النظام الإيراني تزعزع، ولا الهجمات الصاروخية انحسرت. على العكس، يبدو أن كل طلعة جوية إسرائيلية باتت عبئاً اقتصادياً ثقيلاً على كاهل تل أبيب ، وسط استنزاف الطائرات والأسلحة الذكية وموارد الحرب الإلكترونية ، دون أهداف حيوية جديدة تستحق المغامرة.
في الوقت نفسه، تتفاقم أزمة اللاجئين الإسرائيليين الفارين عبر قبرص ومصر، بينما تعيش ملايين العائلات في الملاجئ خشية الصواريخ الباليستية التي لم يعد بمقدور القبة الحديدية التصدي لها.
واشنطن .. بين التردد والخشية من “الضربة الأولى”
على الجانب الآخر من المحيط ، لا تزال الولايات المتحدة تتريث. رغم تهديدات الرئيس ترامب المعلنة وتلويح البنتاجون باستخدام القنابل الخارقة للتحصينات من طراز GBU-57 عبر طائرات B-2 فإن قرار الضربة لم يصدر بعد.
لماذا؟ لأن المخاطرة تبدو هائلة: استهداف “فوردو” قد يفتح باباً لجهنم يصعب غلقه. فهذه المنشأة النووية شديدة التحصين تقع تحت جبل سياه كوه ، وتغطيها طبقات سميكة من الصخور والخرسانة المسلحة ، مما يجعل احتمال فشل الضربة الأمريكية وارداً – وهو كابوس سياسي وعسكري يصعب على واشنطن تحمّله.
فوردو … قلب المشروع النووي الإيراني
تكتسب منشأة “فوردو” أهميتها ليس فقط لموقعها المحصن ، بل لدورها المركزي في تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وهي نسبة لا تفصلها عن إنتاج السلاح النووي سوى خطوة تقنية واحدة تبلغ 90%. وبحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، فإن إيران تنتج حالياً نحو 34 كجم من اليورانيوم عالي التخصيب شهرياً، ما يعني أنها على أعتاب إعلان نفسها دولة نووية كاملة.
المواجهة الكبرى … من سيدفع الثمن؟
لو قررت أمريكا التدخل عسكرياً ، فالمواجهة ستطال قواعدها المنتشرة في الخليج والعراق وسوريا، المعرضة لصواريخ إيرانية مكثفة. أما إذا تم استهداف مضيق هرمز – وهو احتمال قائم – فسيقفز سعر النفط لما فوق 150 دولاراً للبرميل ، مما يعصف بالاقتصاد الأوروبي والأمريكي ، ويشل سلاسل الإمداد العالمية، ويُدخل الأسواق في دوامة من الانهيارات.
موسكو وبكين … لاعبان ينتظران لحظة الحسم
في خلفية المشهد ، يلوح الخطر الأكبر : تحول النزاع إلى حرب عالمية بالوكالة. روسيا هددت رسمياً الولايات المتحدة من مغبة دعم إسرائيل ، فيما التزمت الصين الصمت مع تحريك أساطيلها في بحر الصين الجنوبي ، استعداداً لسيناريو أسوأ.
تاريخ الحروب الكبرى يذكر الجميع: أفغانستان كانت مقبرة الاتحاد السوفيتي بدعم أمريكي. فهل تتحول إيران إلى أفغانستان جديدة لأمريكا بدعم روسي وصيني؟
سؤال الساعة : من سيربح معركة “فوردو”؟
السؤال الذي يؤرق البنتاجون اليوم: هل تمتلك أمريكا فعلاً القدرة على تدمير “فوردو” وإنهاء التهديد النووي الإيراني بضربة واحدة ناجحة؟ أم أن الفشل سيدمر سمعة القوة العظمى ويجرها إلى مستنقع استنزاف جديد؟
إسرائيل تترنح أمام خطر استنزاف دفاعاتها الجوية وتراجع قدرتها على حماية كل جبهاتها.
إيران تواصل التصعيد ، مدفوعة بثقة غير مسبوقة قرب الإعلان الرسمي عن امتلاك السلاح النووي.
الولايات المتحدة في مفترق طرق : ضربة واحدة قد تفرض هيبتها … أو تدمر صورتها إلى الأبد.
وروسيا والصين تراقبان ، بانتظار اللحظة المناسبة لقلب الموازين.
وفي قلب كل هذا .. تقف “فوردو”، منشأة نووية في
جوف جبل ، ترسم وحدها مستقبل المنطقة والعالم.