مقالات

السودان على أعتاب فيضان تاريخي : كيف تحول سد النهضة من أمل للتنمية إلى تهديد وجودي؟

✍️ يوحنا عزمي

في الساعات الأخيرة ، أعلنت وزارة الري السودانية حالة “الإنذار الأحمر” على إمتداد مجرى النيل من الخرطوم حتى سنار والنيل الأبيض. القرار لم يكن إجراءً روتينياً ، بل إنذاراً حقيقياً بكارثة تقترب. فقد باتت القرى والمدن السودانية تعيش حالة طوارئ ، حيث يسارع السكان لإخلاء منازلهم ، حاملين معهم ما استطاعوا من مواشي وأثاث ، بحثاً عن أماكن مرتفعة تحميهم من فيضان وشيك قد يبتلع مناطقهم.

القصة من البداية : الملء السادس

لطالما ارتبط موسم فيضان النيل بالأمطار الموسمية في دول المنبع خلال شهري أغسطس وسبتمبر. لكن هذه المرة الوضع مختلف. السبب المباشر هو قرار إثيوبيا القيام بالملء السادس والأخير لسد النهضة بشكل أحادي، ودون أي تنسيق مع مصر أو السودان.

رغم أن الهدف المعلن من الملء هو تشغيل التوربينات لتوليد الكهرباء ، إلا أن الواقع كشف عكس ذلك ؛ إذ لم تعمل التوربينات بالكفاءة المطلوبة، وبعضها لم يُركب من الأساس. ورغم هذا الفشل الفني ، مضت أديس أبابا في قرارها ، دون مراعاة لتأثير ذلك على دول الجوار.

استعراض إعلامي تحول إلى تهديد

في ظل الظروف الطبيعية ، كان من المفترض أن تبدأ إثيوبيا تصريف المياه تدريجياً منذ يوليو لتخفيف الضغط على جسم السد مع حلول موسم الأمطار. لكن آبي أحمد ، في مشهد استعراضي أمام عدسات الكاميرات ، قرر فتح أربع بوابات دفعة واحدة خلال احتفال رسمي. النتيجة كانت تدفقات هائلة فاقت كل التوقعات.

أرقام لا تحتملها السدود السودانية

بحسب وزارة الري السودانية ، بلغت التدفقات اليومية في النيل الأزرق نحو 730 مليون متر مكعب على مدار أربعة أيام متواصلة. هذه الكميات غير المسبوقة وضعت السدود السودانية تحت ضغط هائل :

سد الروصيرص اضطر لتصريف 670 مليون متر مكعب يومياً.

سد سنار وصل إلى 600 مليون متر مكعب يومياً.

سد مروي تخطى 700 مليون متر مكعب يومياً.

هذه المعدلات تفوق الطاقة الطبيعية للسدود بنحو 300 مليون متر مكعب يومياً ، ما أدى إلى ارتفاع منسوب النيل إلى 16.9 متر ، وهو ثاني أعلى مستوى في تاريخه بعد فيضانات 2020 ، حين نزح أكثر من نصف مليون شخص ودُمر أكثر من 100 ألف منزل.

الخطر الإنساني : بلد مثقل بالأزمات

المشهد اليوم في السودان أكثر قتامة من فيضانات 2020. فالدولة تعيش حرباً أهلية مريرة ، وانهيارًا اقتصادياً غير مسبوق ، وتراجعاً في الخدمات الأساسية. في ظل هذا الوضع ، أي فيضان جديد سيضاعف المعاناة الإنسانية ، وقد يؤدي إلى موجات نزوح جماعية وانهيار للبنية التحتية الهشة أصلًا.

قراءة الخبراء : “إنذار أخير قبل الكارثة”

خبراء الموارد المائية حذروا من أن الموقف الحالي غير مسبوق. الدكتور عباس شراقي ، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة ، أكد أن “العناد الإثيوبي وعدم الإعتراف بفشل تشغيل التوربينات” قادا إلى كارثة وشيكة ، بعدما بلغ تصريف النهر 750 مليون متر مكعب يومياً للمرة الأولى في التاريخ.

مصر … في مأمن مؤقت

على الجانب الآخر ، تبدو مصر بعيدة عن الخطر المباشر بفضل السد العالي ، الذي يستوعب هذه التدفقات. لكن ذلك لا يعني أن الموقف بلا تهديد ، إذ أن استمرار القرارات الأحادية من جانب إثيوبيا يضع الأمن المائي الإقليمي كله تحت رحمة مغامرات سياسية.

البعد السياسي : السد كسلاح مائي

المفارقة أن إثيوبيا لطالما روجت أن سد النهضة سيكون “درعاً يحمي السودان من الفيضانات”. لكن الواقع يثبت العكس. السد ، بدلًا من أن يكون مشروعاً تنموياً ، تحول   إلى ورقة ضغط سياسية وسلاح مائي موجه ضد دول المصب ، في ظل غياب أي إطار لإدارة مشتركة أو تنسيق إنساني.

التداعيات المستقبلية : تهديد عابر للحدود

الأزمة الحالية تكشف أن الأمن المائي في حوض النيل بات مهددًا بقرارات فردية. استمرار غياب اتفاق قانوني ملزم بين الدول الثلاث يعني أن أي خطأ في تشغيل السد أو أي موسم أمطار غزيرة قد يتحول إلى كارثة عابرة للحدود.

إنها أزمة لا تهدد السودان وحده ، بل الإستقرار الإقليمي بأكمله.

يقف السودان اليوم على أعتاب كارثة قد تعيد رسم خريطته السكانية والاقتصادية. المشهد واضح : سد النهضة لم يعد مجرد مشروع كهرباء كما وعدت إثيوبيا ، بل أصبح تهديداً وجودياً ، وسلاحاً جيوسياسياً يضع شعوب المنطقة تحت رحمة قرارات أحادية.

ما لم يتغير هذا المسار عبر اتفاق شامل وعادل ، سيظل النيل ، شريان الحياة ، مهدداً بأن يتحول إلى أداة موت ودمار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!