مقالات

من قبو هارفارد إلى مجلس الأمن : هل بدأ العالم يرسم نهاية إسرائيل؟

✍️ يوحنا عزمي

في الأيام الأخيرة عاد اسم جامعة هارفارد إلى الواجهة ، ليس بسبب بحث علمي أو اكتشاف جديد ، بل بسبب خطوة غريبة ومثيرة للجدل كشفت عنها صحيفة هآرتس العبرية ، حيث أشارت إلى أن الجامعة تجهز منذ سنوات أرشيفاً ضخماً مخفياً في قبو تحت الأرض ، يحمل اسم “أرشيف إسرائيليانا”، ويضم ما يصل إلى مليون مادة ووثيقة وصورة وتسجيل ، تُصور كل كبيرة وصغيرة تتعلق بتاريخ الإحتلال الصهيوني منذ ما قبل 1948 وحتى اللحظة.

الفكرة في حد ذاتها ليست جديدة ، فالمشروع بدأ منذ أواخر الستينات ، لكن ما فجر النقاش هذه المرة لم يكن وجود الأرشيف ، بل السبب الحقيقي وراء إنشائه : الاحتفاظ بـ “ذاكرة إسرائيل” تحسباً لانهيارها وزوالها عن الوجود في يوماً ما.

الصحيفة حكت عن الحوار الذي دار بين الصحفيين والمسؤول عن الأرشيف في هارفارد ، وهو الباحث “تشارلز برلين”، وحين سألوه لماذا يجمع هذا الكم من الوثائق التي تخص دولة كاملة لا تربطه بها علاقة مباشرة ، كانت إجابته صادمة للصحافة الإسرائيلية، إذ رد قائلًا: “هل أنتم متأكدون تماماً من أنكم في إسرائيل ستبقون على قيد الحياة؟”

هذا السؤال وحده كان كافياً ليشعل الجدل ، لأنه يترجم    ما يدور تحت السطح : هناك هاجس وجودي يلاحق الكيان منذ لحظة تأسيسه ، هاجس ظل لسنوات محبوساً في قبو جامعي ، لكنه الآن يطفو على السطح ويتحول إلى واقع سياسي ملموس.

والتوقيت ليس بريئاً ؛ فالحديث عن الأرشيف يعود اليوم بالتزامن مع تطورات دولية مهمة ، أبرزها موافقة مجلس الأمن الدولي على الخطة الأمريكية لوقف إطلاق النار في غزة. وبرغم الجدل الضخم المحيط بتفاصيل هذه الخطة، فإن أهم ما فيها هو أنها ترسم ـ لأول مرة بهذا الوضوح ـ مستقبلًا سياسياً لغزة مرتبطاً بمسار يقود إلى دولة فلسطينية. كلمة واحدة في القرار الأمريكي كانت كفيلة بإثارة ذعر اليمين الإسرائيلي : “دولة فلسطينية”.

الخطة تتضمن إقامة قوة إستقرار دولية تتولى إدارة الأمن في غزة وتعمل على نزع سلاح الفصائل، ما يعني أن الجيش الإسرائيلي سيكون مضطراً للانسحاب الكامل من القطاع.

وبرغم أن المقاومة رفضت حتى الآن فكرة القوات الدولية إلا تحت إشراف الأمم المتحدة ، فإن مجرد وجود هذه الخطوة يضرب في جذور المخطط الأمني الإسرائيلي الذي يقوم على السيطرة المباشرة والدائمة على القطاع.

الأخطر من ذلك هو الربط الصريح ـ لأول مرة ـ بين الترتيبات الانتقالية في غزة وبين إقامة دولة فلسطينية مستقبلية ، على نحو يمثل تحولًا كبيراً في الخطاب الأمريكي. هذا التحول أطاح بتوازنات داخل إسرائيل نفسها، وأخرج أكثر التيارات تطرفاً عن طوره ، لدرجة دفعت بن غفير إلى الدعوة علناً لإعتقال رئيس السلطة الفلسطينية وشن عمليات إغتيال ضد قياداتها ، وصولًا إلى تكرار خطابه المعتاد بأن “الشعب الفلسطيني شعب مختلق ولا يجب أن تكون له دولة”.

هذا الانفلات السياسي ليس مجرد انفعال ، بل شعور حقيقي بأن الكيان يواجه ضغوطاً دولية غير مسبوقة ، وأن العالم بات يرسم مستقبل المنطقة دون استشارة الحكومة الإسرائيلية ، بل رغماً عنها. ومن هنا تبدو أهمية الأرشيف المدفون تحت مبنى جامعي أمريكي ؛ فهو ليس مجرد مشروع بحثي ، بل محاولة ـ وفق منطق أصحابه – لإنقاذ الذاكرة قبل أن يبتلعها إحتمال الانهيار.

المشهد اليوم يضع إسرائيل أمام نفس السؤال الذي طرحه المسؤول عن الأرشيف قبل سنوات :

هل هم واثقون حقاً من قدرتهم على البقاء؟

فالعالم يتجه نحو فرض إطار سياسي جديد يبدأ بتسليم الأمن في غزة لقوة دولية ، ويمر بإعادة إعمار القطاع، وقد ينتهي بالاعتراف الكامل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ، بينما اليمين الإسرائيلي يشاهد هذا التحول وهو يشعر بأن الأرض تُسحب تدريجياً من تحت قدميه.

التفاصيل الكاملة للخطة الأمريكية وتأثيراتها المتوقعة   على الأرض ستكون محور حديث لاحق ، لكن ما يحدث  الآن يكفي لإظهار حجم القلق الذي يدفع بعض المؤسسات الغربية إلى حفظ تاريخ كيانٍ يخشى أن يفقد مستقبله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!