✍️ يوحنا عزمي
في تطور مفاجئ ومهم ، أعلنت مصر قبل ساعات قليلة عن استضافتها مؤتمراً فلسطينياً شاملًا في مدينة العريش، هدفه مناقشة سبل وقف الحرب في غزة والوصول إلى صيغة تفاهم تنهي النزيف المتواصل منذ شهور.
وفي اللحظة نفسها تقريباً ، خرجت إسرائيل بإعلان موازٍ يفيد بتعليق اجتياحها البري الكامل لمدينة غزة، والاكتفاء بما أسمته «عمليات دفاعية محدودة».
ورغم أن هذه الخطوة قد تبدو للوهلة الأولى بادرة تهدئة ، إلا أن خلف الكواليس تدور لعبة أعقد بكثير من مجرد وقف مؤقت للنار.
البدايات : من مناورة سياسية إلى تحرك دولي مفاجئ
القصة بدأت من بيان حركة حماس الذي صدر مساء الأمس، وأعلن فيه قادتها موافقة مشروطة على خطة ترامب للسلام. البيان جاء بلغة محسوبة بدقة ، تمزج بين المراوغة السياسية والإيجابية الدبلوماسية. فالحركة لم ترفض الخطة بشكل مباشر كما اعتادت ، بل أبدت استعدادها لمناقشتها مع طرح تعديلات محددة عليها.
كانت الصياغة لافتة إلى درجة أن بعض المراقبين وصفوها بأنها “بيان يُكتب للغرض الإعلامي أكثر من التفاوضي”، إذ حمل بين سطوره إشادة غير مباشرة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، وكأنه محاولة لكسب وده ، أو على الأقل تجنب صدام مباشر معه.
لكن المفاجأة أن هذه المناورة نجحت بما يفوق توقعات واضعيها.
فبعد ساعات فقط، نشر ترامب على منصة Truth Social صورة له مرفقة بتصريح يشيد فيه بـ”الروح الإيجابية التي أبدتها المقاومة الفلسطينية”، ووجه الشكر إلى الدول العربية التي ساهمت في المفاوضات وعلى رأسها مصر وقطر والسعودية والأردن ، معتبرًا أن هذه الجهود تمثل “خطوة حقيقية نحو السلام في الشرق الأوسط”.
اللحظة الفارقة : ترامب يضغط .. ونتنياهو يتراجع
الحدث الأكثر تأثيرًا لم يكن البيان الفلسطيني بحد ذاته ، بل رد الفعل الأمريكي عليه.
فبعد أن بدا ترامب متحمساً للبيان ، أصدر تعليمات مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية بوقف الهجوم الواسع على مدينة غزة، ودعا إلى “وقف إطلاق النار فورًا من أجل إنجاح جهود السلام”.
هذا القرار فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان يستعد لإطلاق حملة عسكرية واسعة النطاق بهدف إفشال الخطة الأمريكية وإعادة خلط الأوراق.
كانت نية نتنياهو الواضحة هي أن يُظهر ترامب كأنه رجل ساذج وقع في فخ “الإرهاب”، لكن ترامب سبقه بخطوة، وأعلن عن قراره علناً قبل أن يتمكن نتنياهو من الرد، ما وضع الأخير في زاوية سياسية حرجة للغاية.
ومع هذا الضغط الأمريكي المباشر ، لم يجد نتنياهو مفراً من إصدار أوامر عاجلة لجيشه بتجميد العمليات الهجومية والاكتفاء بالتمركز في المواقع التي تم احتلالها ، في مشهد نادر يعكس حجم التوتر بين واشنطن وتل أبيب.
لكن كعادته ، لم يلتزم نتنياهو بتعهداته طويلًا. فبعد أقل من 24 ساعة ، خرجت حكومته بتصريحات جديدة تقول إن الجيش لم يوقف القصف ، بل “قلل شدته فحسب”.
وبالفعل ، عادت الغارات الجوية لتضرب القطاع بوتيرة أقل لكنها أكثر دقة وقسوة ، مخلفة عشرات الشهداء ومئات المصابين ، ما أعاد الشكوك حول نوايا تل أبيب الحقيقية.
في خضم هذه التطورات ، أصدرت القاهرة بياناً رحبت فيه بموقف المقاومة ، وأشادت بجهود ترامب «الساعية إلى إحلال السلام»، في صيغة تبدو متوازنة لكنها تخفي خلفها حركة نشطة جدًا على الأرض.
إذ سرعان ما أعلنت مصر عن عقد مؤتمر شامل في مدينة العريش يوم الاثنين 6 أكتوبر ، بمشاركة وفود رفيعة المستوى من الولايات المتحدة وإسرائيل والسلطة الفلسطينية ، إلى جانب ممثلين عن الفصائل الفلسطينية.
الإجتماع ، بحسب التسريبات ، سيكون بإدارة مصرية خالصة ، وسيشارك فيه من الجانب الأمريكي مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف وربما جاريد كوشنر أيضًا، في حين سترسل إسرائيل وزيرها المقرب من نتنياهو رون ديرمر ، المعروف في الأوساط السياسية بلقب “ظل نتنياهو”.
“ظل نتنياهو” : الرجل الذي يفسد كل تفاوض
وجود رون ديرمر على رأس الوفد الإسرائيلي ليس تفصيلًا بسيطًا. فهو معروف بتوجهاته اليمينية المتطرفة ، ويُلقب بين أهالي الأسرى الإسرائيليين بـ”المُعرقل”، لأنه دائمًا ما يلعب دور المفسد لأي تسوية تتعلق بتبادل الأسرى أو إنهاء الحرب.
تاريخه حافل بمحاولات تعطيل أي مبادرة لا تخدم طموحات نتنياهو الشخصية ، ما يجعل مشاركته إشارة واضحة إلى أن الملف بالنسبة لتل أبيب سياسي بحت، لا علاقة له بأمن المواطنين أو حياة الأسرى، بل بمصير نتنياهو نفسه الذي يواجه ملفات فساد ومحاكمة محتملة إن توقفت الحرب.
أما عن شروط حماس التي تضمنها بيانها الأخير ، فهي لم تكن مثالية لكنها عكست نضجاً سياسياً واضحاً :
تمديد المهلة الزمنية التي حددتها الخطة الأمريكية لتبادل الأسرى من 72 ساعة إلى أسبوع على الأقل، بحجة تعقد الظروف الميدانية وصعوبة الوصول إلى بعض المحتجزين تحت الأنقاض.
انسحاب جزئي للجيش الإسرائيلي من بعض مناطق قطاع غزة ، وخصوصًا من محيط المدينة.
رفض قاطع لنزع السلاح بالكامل، مع القبول بفكرة تسليم الأسلحة الهجومية إلى جهة عربية أو دولية ، والإبقاء على المنظومات الدفاعية حتى تسليمها رسميًا إلى “الدولة الفلسطينية” المنتظرة.
هذه النقاط الثلاث تكشف أن الحركة تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين المناورة السياسية والمكسب الميداني، دون الظهور بمظهر الضعف أو الاستسلام.
الرؤية المصرية : عودة الدور الإقليمي
الموقف المصري يسعى بوضوح إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل.
القاهرة تطرح فكرة تشكيل لجنة كفاءات وطنية مستقلة (أو حكومة تكنوقراط) تتولى إدارة قطاع غزة مؤقتًا، إلى أن يتم توحيد الصف الفلسطيني تحت سلطة وطنية واحدة.
هذا الطرح، في جوهره، هو البند الأصلي في خطة ترامب التي كانت قد حظيت بتوافق عربي مبدئي، قبل أن يعيد نتنياهو تعديلها ويقترح وضع غزة تحت وصاية أمريكية يديرها توني بلير – وهو ما رفضته القاهرة رفضًا قاطعا في حينه.
اللعبة الكبرى : مصر وترامب ضد نتنياهو
التحالف الضمني بين القاهرة وترامب الآن يهدف ، بشكل أو بآخر، إلى إقصاء نتنياهو من المشهد.
فمصر تسعى لتهدئة تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف، بينما يريد ترامب تحقيق إنجاز دبلوماسي كبير قبل إعلان جائزة نوبل للسلام هذا الشهر ، وهي الجائزة التي يسعى إليها بشغف شديد ليقدم نفسه كـ”صانع سلام عالمي”.
ومن ناحية أخرى، يواجه ترامب ضغطًا داخليًا متزايدًا داخل الولايات المتحدة، إذ أصبح الرأي العام الأمريكي أكثر انتقادًا من أي وقت مضى للنفوذ الإسرائيلي في السياسة الأمريكية، خاصة بعد حلقة الإعلامي المحافظ تاكر كارلسون التي هاجم فيها علنًا “الهيمنة الإسرائيلية على القرار الأمريكي”، وهي الحلقة التي تجاوزت مشاهداتها عشرات الملايين وأثارت ضجة غير مسبوقة.
الخلاصة : إلى أين يتجه المشهد ؟
كل المؤشرات تقول إن مؤتمر العريش القادم سيكون محطة مفصلية في مسار الحرب على غزة.
فهو قد يتحول إلى فرصة حقيقية لوضع حد للنزيف، وبدء مرحلة جديدة من التهدئة والتسوية السياسية ، إذا ما نجحت مصر في كبح نتنياهو واستغلال اندفاع ترامب نحو السلام.
لكن في المقابل، لا يمكن استبعاد أن يحاول نتنياهو إفشال المؤتمر كعادته، لتأجيل سقوطه السياسي الذي بات وشيكًا.
في النهاية ، تبقى الآمال معلقة على أرض العريش – تلك المدينة التي طالما كانت بوابة للحروب والسلام معًا.
هل تفتح هذه المرة بوابة للحياة بدلًا من الموت؟
الجواب ما زال معلقًا بين إرادة الشعوب ومكائد الساسة.