✍️ يوحنا عزمي
في الساعات الأخيرة ، تصاعدت الأحداث في المنطقة بوتيرة متسارعة تحمل في طياتها إشارات خطيرة وتحولات سياسية وعسكرية قد ترسم ملامح مرحلة جديدة من الصراع.
فالحركة الفلسطينية أعلنت قبل قليل موافقتها “المشروطة” على خطة ترامب ، وهو تطور غير بسيط بالنظر إلى الموقف التقليدي الرافض الذي التزمت به طويلاً.
وفي الوقت ذاته ، أقدمت الولايات المتحدة على خطوة عسكرية لافتة ، إذ دفعت بأضخم وأخطر حاملة طائرات في أسطولها إلى مياه البحر المتوسط ، في مشهد يعيد للأذهان مقدمات الحروب الكبرى التي سبقت كل انفجار إقليمي في العقود الأخيرة.
وفي التفاصيل ، تشير المعطيات إلى أن المقاومة بعد مراجعة استمرت قرابة يومين، وافقت مبدئياً على خطة ترامب ولكن بصيغة غامضة تحمل بين سطورها الكثير من التحفظات والتعديلات. فقد أعلنت الحركة أنها تقبل الإفراج عن جميع الأسرى دفعة واحدة وتسليم إدارة قطاع غزة إلى هيئة فلسطينية من التكنوقراط المستقلين، ما يعني ضمنياً استعدادها للتخلي عن السلطة إذا توافرت الضمانات الوطنية الكافية.
هذه الخطوة وضعت نتنياهو في مأزق داخلي حقيقي ، إذ يواجه ضغطاً هائلاً من الشارع الإسرائيلي الذي خرج في مظاهرات متكررة للمطالبة بعودة الأسرى ، وفي حال رفضه العرض الحالي فسيجد نفسه في مواجهة أزمة سياسية جديدة داخل إسرائيل.
لكن البيان الذي صدر عن الحركة لم يكن خالياً من المناورات السياسية الدقيقة ، إذ ربطت مسألة التخلي عن السلطة بـ“موقف وطني جامع” و“توافق فلسطيني” شامل على إدارة القطاع ، رافضة بشكل قاطع فكرة أي وجود أجنبي أو عربي لإدارة غزة.
هذا الشرط ينسف أحد أهم بنود خطة ترامب رقم 21، والذي كان ينص على إشراف دولي أو إقليمي على إدارة القطاع خلال المرحلة الانتقالية.
أما بخصوص ملف السلاح ، فقد تجاهل البيان ذكر أي شيء صريح عنه ، لكن أحد قياديي الحركة أوضح في تصريح لقناة الجزيرة أن مسألة تسليم السلاح غير مطروحة إلا بعد إنهاء الاحتلال بالكامل، وأن أي نقاش حول هذا الملف لن يتم إلا في إطار وطني شامل يضمن الحقوق الفلسطينية ويؤكد على مسار إقامة الدولة.
وبذلك يتضح أن الحركة وافقت من حيث المبدأ على الهدنة وعلى صفقة تبادل الأسرى ، لكنها في المقابل تمسكت بسلاحها ورفضت وجود أي إدارة غير فلسطينية داخل القطاع ، وهو ما يضع واشنطن وتل أبيب أمام مفترق طرق حاد لا ثالث له : إما الدخول في مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق نهائي يوقف الحرب، أو اللجوء إلى الخيار العسكري الذي لوح به ترامب في منشور أخير على منصة “تروث سوشيال”، حين قال إنه قادر على تحويل غزة إلى “جحيم مختلف عن أي شيء شوهد من قبل”.
المفارقة أن ترامب نفسه، وبعد دقائق من تصريحه الناري، كتب منشوراً آخر دعا فيه إسرائيل إلى وقف قصف غزة مؤقتاً “حتى نتمكن من إخراج الأسرى بسلام”، مضيفاً أن “حماس تبدو جاهزة للسلام”. ورغم أن كثيرين شككوا في صدقية هذا التحول المفاجئ، إلا أن مجرد صدوره في هذا التوقيت يفتح الباب أمام احتمالات جديدة قد تقود إلى وقف مؤقت لإطلاق النار أو إلى إعادة ترتيب أوراق الحرب سياسياً.
غير أن الصورة لا تكتمل دون النظر إلى التحركات الأمريكية العسكرية الموازية ، التي توحي بأن واشنطن لا تراهن فقط على المفاوضات ، بل تجهز نفسها أيضاً لسيناريو أكثر خطورة.
فقد أكدت تقارير إعلامية كبرى مثل “رويترز” و“NBC” أن الولايات المتحدة أرسلت حاملة الطائرات “يو إس إس فورد” إلى البحر المتوسط ، وهي أضخم وأحدث قطعة في أسطولها البحري ، ووجودها هناك لا يمكن تفسيره بأنه مجرد استعراض للقوة، بل هو عادة مؤشر مسبق لاندلاع مواجهة كبرى في المنطقة.
وبالتزامن مع ذلك ، رفعت واشنطن مستوى تسليح إسرائيل بشكل غير مسبوق ، إذ زادت عدد منصات منظومة الدفاع الصاروخي “ثاد” من ست إلى إحدى عشرة قاذفة ، وزودتها برادارات متطورة من طراز “AN/TPY-2”، وهي تقنيات لا يتم نقلها عادة إلا في حالات التأهب القصوى. للمقارنة ، خلال حرب يوليو التي دامت 12 يوماً ضد إيران ، كانت إسرائيل تمتلك فقط بطاريتين من هذا النظام ، وكان يُعتبر ذلك رقماً كبيراً حينها.
أما الآن ، فهناك مؤشرات على وجود بطارية ثالثة نُقلت من الإمارات إلى إسرائيل، ما يعزز الاعتقاد بأن واشنطن تعيد هيكلة منظومة الدفاع الجوي في المنطقة استعداداً لحدث عسكري محتمل.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد ، فصور الأقمار الصناعية التي نشرتها بعض الصحف الدولية أظهرت أعمال توسعة في البنية التحتية للدفاعات الإسرائيلية وتحديثات في الأنظمة اللوجستية ، بما يشير إلى حالة استنفار واسعة. وإذا جمعنا كل هذه التطورات العسكرية والسياسية معاً، فسنصل إلى نتيجة شبه مؤكدة بأن الولايات المتحدة وإسرائيل تستعدان لمرحلة مواجهة كبرى في الشرق الأوسط.
وفي المقابل ، لا تقف إيران مكتوفة الأيدي أمام هذا التصعيد، إذ تشير تقارير استخباراتية إلى أن طهران رفعت مستوى جاهزيتها العسكرية إلى أقصى حد، وتقوم حالياً بأكبر حشد عسكري في تاريخها الحديث ، مع نقل الصواريخ الباليستية إلى مواقع محصنة داخل الجبال تحسباً لأي مواجهة محتملة. هذا يعني أن جميع الأطراف تسير بخطى متسارعة نحو لحظة حاسمة، قد تحدد مصير المنطقة لعقود قادمة.
ويبقى السؤال الأهم : هل نحن على أعتاب حرب شاملة بين إيران وإسرائيل ، تكون اتفاقات غزة مجرد تمهيد أو غطاء سياسي لها .. أم أن ما يجري ليس سوى تمويه استراتيجي ، تمهيداً لمعارك على جبهات أخرى غير متوقعة؟
الإجابات ما زالت غامضة ، لكن المؤشرات المتلاحقة توحي بأن الشرق الأوسط يقف مرة أخرى على فوهة بركان، وأن الأيام المقبلة قد تحمل أحداثاً تغير موازين القوة تماماً كما حدث في المحطات المفصلية من تاريخه المعاصر.
إلى أن تتضح الصورة ، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، ويبقى المراقب في انتظار ما ستكشفه الساعات القادمة من مفاجآت ، في مشهد لم يعد يحتمل سوى القليل من التفاؤل والكثير من الحذر.