✍️ يوحنا عزمي
في اللحظة التي بدأ فيها العالم يتنفس الصعداء متوهمًا أن هدنة غزة تمثل بوابة نحو السلام، كانت خيوط لعبة أخطر تُحاك في الخفاء ، لعبة تُدار بذكاء بارد بين واشنطن وتل أبيب، ووسطهما فصائل المقاومة التي وجدت نفسها أمام أكبر كمين سياسي في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فكل ما بدا في الأيام الأخيرة من ملامح انفراج ، لم يكن في حقيقته سوى مرحلة أولى في سيناريو بالغ التعقيد ، يختلط فيه الدبلوماسي بالعسكري ، والمعلن بالمخفي ، والهدنة بالتهيئة لحرب جديدة.
الخطة التي أُعلن عنها يوم ٢٩ سبتمبر لم تكن كما روج الإعلام الغربي “مبادرة سلام شاملة”، بل كانت ورقة استسلام مكتوبة بحبر السياسة وممهورة بختم القوة.
ترامب ، الذي عاد إلى المشهد الدولي متقمصاً دور الوسيط المنتظر ، لم يطرح خطة سلام ، بل خطة إذعان شاملة تتلخص في معادلة واحدة : إما تسليم السلاح أو الإبادة.
في ظاهرها، الخطة تتحدث عن مراحل ثلاث تبدأ بتبادل الأسرى وانسحاب تدريجي محدود لقوات الاحتلال، وتنتهي بإدارة مدنية لغزة برئاسة “مجلس سلام” يقوده ترامب نفسه ويضم شخصيات مثل توني بلير ، لكن في جوهرها هي عملية نزع سلاح منظمة للمقاومة ، تُفكك بها بنية الردع الفلسطينية قطعة قطعة تحت غطاء الإعمار والسلام.
اللافت أن حماس تعاملت مع الخطة بدهاء غير مسبوق. فهي لم ترفضها صراحة، ولم تقبلها نصاً.
استخدمت اللغة الرمادية التي تُبقي كل الخيارات مفتوحة: أعلنت استعدادها لتسليم الرهائن فورًا مقابل وقف الحرب وانسحاب الاحتلال ، وأبدت مرونة في التخلي عن الحكم الإداري لغزة لصالح إدارة توافقية، لكنها تجاهلت عمداً بند نزع السلاح ، ورفضت إنشاء مجلس السلام الأمريكي واعتبرته شكلًا جديداً من أشكال الإحتلال المقنع.
بهذا الموقف ، نجحت حماس في كسب غطاء دولي مؤقت، وأوقفت القصف ، وفي الوقت ذاته احتفظت بسلاحها وبمكانتها كقوة أمر واقع.
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في موقف حماس ، بل في سرعة ترامب المريبة في إعلان ما سماه “اتفاق سلام تاريخي”، بعد أقل من ساعة على بيان الحركة.
تصرف ترامب كما لو كان أمامه لحظة ذهبية يجب أن يقتنصها فورًا : أراد أن يظهر أمام العالم كرجل السلام الذي أجبر حماس على التراجع ، وأمام الداخل الأمريكي كرئيس قوي أعاد ترتيب الشرق الأوسط بجرأة غير مسبوقة.
لكن تحت هذا المظهر الاحتفالي تكمن نية أخرى أخطر : أن يدفع إسرائيل والمقاومة إلى نقطة اللاعودة.
نتنياهو وجد نفسه عالقاً بين مطرقة واشنطن وسندان اليمين المتطرف في حكومته.
البيت الأبيض يضغط لوقف الحرب وتطبيق المرحلة الأولى من الخطة، بينما أقطاب اليمين يعتبرون أي هدنة من دون نزع سلاح المقاومة خيانة قومية.
نتنياهو يدرك أن أي تراجع الآن يعني نهايته السياسية، لكنه أيضًا لا يستطيع أن يصطدم مباشرة بحليفه الأمريكي في هذا التوقيت الحساس.
الحل الوحيد أمامه هو المناورة المؤقتة : القبول الشكلي بالمرحلة الأولى – تبادل الرهائن – مع كسب الوقت للتحضير لمرحلة عسكرية جديدة.
هو يعلم أن حماس لن تقبل نزع السلاح، ويعلم أن هذا البند سيكون الذريعة المثالية لاستئناف الحرب لاحقًا تحت غطاء “تنفيذ الخطة الدولية”.
في هذا السياق ، تبدو الهدنة ليست أكثر من استراحة تكتيكية للطرفين ، لكنها بالنسبة لواشنطن وتل أبيب تحمل هدفًا أوضح :
انتزاع ورقة الرهائن ، أقوى ورقة تفاوض في يد حماس، وحرمانها من الضغط الإنساني والإعلامي، ثم قلب الطاولة بعدها تحت شعار “المقاومة لم تلتزم بخطة السلام”.
النتيجة المتوقعة : انقسام دولي جديد حول من خرق الاتفاق ، وضوء أخضر ضمني لاستئناف الحرب تحت مبررات “فرض السلام بالقوة”.
وسط هذا المشهد، يبرز السؤال الأخطر: هل يمكن أن تسلم حماس الرهائن دون ضمانات حقيقية بعدم عودة القصف؟
وإذا فعلت ذلك ، ماذا سيحدث بعد أن تفقد ورقتها الأخيرة؟
السيناريو الأقرب أن المقاومة ستطالب بضمانات دولية ، لكن لا واشنطن ولا تل أبيب ستقدمانها فعليًا.
سيُترك الملف في حالة “ضبابية مقصودة” تسمح لكل طرف بتفسيره كما يشاء.
وبمجرد أن تهدأ الأجواء وتُرفع الكاميرات عن غزة، قد تبدأ التحضيرات لعملية عسكرية أوسع وأشد قسوة تحت شعار “المرحلة الثانية من خطة السلام”.
الخطورة لا تكمن فقط في مصير غزة ، بل في إنعكاس هذا السيناريو على مصر أيضًا.
فأي تصعيد جديد ، خصوصًا إذا ارتبط بتغييرات في إدارة غزة أو بممرات لوجستية على الحدود ، سيضع القاهرة في قلب الحدث شاءت أم أبت.
والحديث الغامض عن “نطاق أمني” يحتفظ به الاحتلال دون تحديد جغرافي أو زمني ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو البند الذي قد يفتح الباب لتدخلات على تخوم سيناء تحت ذريعة “حماية الأمن الإقليمي”.
من هنا تبدو الصورة مقلقة إلى أبعد حد.
كل ما يجري يوحي بأن ما يسمى “الهدنة” ليس سوى فخاً سياسيًا وعسكريًا محكمًا، وأن ما نراه الآن ليس نهاية الحرب بل بدايتها الحقيقية.
فالذين يظنون أن النار انطفأت لم يدركوا بعد أن الرماد يخفي تحته لهباً ينتظر لحظة الانفجار.
الهدنة ليست سلامًا ، بل مرحلة إعادة تموضع ، واستعداد لجولة قد تكون الأعنف والأكثر حسماً في تاريخ هذا الصراع.