✍️ يوحنا عزمي
في مثل هذا اليوم من كل عام ، تعود الذاكرة المصرية والعربية إلى لحظة فارقة ، لحظة خرج فيها النيل من صمته ، وصاحت الأرض بصوت المقاتل المصري وهو يكتب بدمه على ضفة القناة أن “الكرامة لا تُسترد بالكلام بل بالفعل”. إنها ذكرى السادس من أكتوبر 1973، اليوم الذي أعاد للعرب ثقتهم بأنفسهم، وأعاد لمصر مكانتها التي حاولت النكسة أن تسرقها ، لكنه كان يوماً قرر فيه التاريخ أن ينحاز لمن يملكون الإيمان والإصرار لا لمن يملكون العتاد والغرور.
بدأت القصة بعد سنوات من الصمت الذي ظنه العدو خنوعاً والانتظار الذي تخيله البعض ضعفاً. لكن خلف الجبهات كانت مصر تبني جيشاً جديداً من رماد الهزيمة ، وتعيد رسم خريطتها النفسية قبل العسكرية. كان الهدف واضحاً : أن تعود الأرض ، وأن يُمحى من الذاكرة العربية طعم الانكسار. في كل معسكر تدريب ، وفي كل نداء صباحي، كانت الكلمة التي تتردد في القلوب قبل الألسنة: “هنعدي”.
وفي ظهر السادس من أكتوبر ، بينما كانت إسرائيل تحتفل بيوم الغفران في استرخاء وغرور ، دوى صوت الطائرات المصرية يعبر قناة السويس ، مخترقاً جدارًا من الأسطورة قبل أن يخترق جدار بارليف. في دقائق قليلة ، تساقطت أوهام العدو، وتحول الصمت الطويل إلى عاصفة من النيران والبطولة. عبر الجنود القناة بزوارق مطاطية تحت نيران كثيفة ، حاملاً كل واحد منهم فوق ظهره وطناً كاملًا ، لا خوذة ولا بندقية فحسب.
لقد كانت معركة عبور قبل أن تكون حربًا بالمدافع. عبور من اليأس إلى الأمل ، من الانكسار إلى الكبرياء. حتى الرمال نفسها كانت شريكًا في النصر، حين حولها الجنود إلى جسور وممرات تعبر فوقها المدرعات، وكأن الأرض قررت أن تساعد أبناءها على التحرير. لم يكن النصر وليد القوة فقط، بل وليد العزيمة التي لا تعرف الاستسلام ، والإيمان بأن السماء لن تخذل من يدافع عن أرضه.
ولم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة عسكرية ، بل كانت درساً أخلاقياً وسياسيًا للعالم بأسره. أثبتت أن العرب حين يتوحدون تحت راية الهدف الواحد يمكنهم أن يصنعوا المعجزات. كما كانت صرخة في وجه كل من حاول اختزال القوة في التكنولوجيا وحدها ، لأن الإرادة البشرية حين تتسلح بالإيمان تستطيع أن تكسر الحديد والنار.
وفي خلفية كل مشهد بطولي على الجبهة ، كان هناك شعب في الداخل يقاتل بطريقته الخاصة. الأمهات اللاتي ودعن أبناءهن دون دموع ، والعمال الذين واصلوا الإنتاج رغم الظلام ، والفلاحون الذين أرسلوا قوتهم للجبهة قبل أن يرسلوا أبناءهم. كانت مصر كلها تحارب ، من الميكروفون في إذاعة “صوت العرب” إلى المجرفة في أرض الدلتا.
وبينما كانت الدبابات تتقدم، كانت الكرامة المصرية تستيقظ بعد غياب طويل. وعندما رُفع العلم على الضفة الشرقية للقناة ، لم يكن مجرد قطعة قماش ترفرف في الهواء ، بل كان رمزًا لوطن قرر أن يعيش مرفوع الرأس مهما كان الثمن.
اليوم ، بعد أكثر من خمسة عقود ، تبقى حرب أكتوبر ليست فقط ذكرى عسكرية ، بل شهادة على أن الإنسان حين يؤمن بقضيته ، يستطيع أن يُعيد كتابة التاريخ. لقد تغيرت الجغرافيا ، وتبدلت التحالفات ، لكن روح أكتوبر لا تزال هي البوصلة التي تذكر المصريين أن الكرامة أغلى من الحياة، وأن الوطن لا يُحمى إلا بأبنائه الذين يعرفون معنى التضحية.
إن السادس من أكتوبر لم يكن مجرد انتصار في معركة، بل انتصار لكرامة أمة بأكملها. انتصار الإنسان على الخوف، والحق على الباطل ، والواقع على الأسطورة. سيظل ذلك اليوم علامة مضيئة في سجل الإنسانية ، لأنه أثبت أن لا شيء مستحيل حين يتوحد القلب مع الهدف، وحين يقف التاريخ احترامًا لأمة قررت أن تنتصر.