✍️ يوحنا عزمي
أوروبا الآن على شفا مرحلة من التوتر غير المسبوق منذ سنوات طويلة ، ليس بسبب حرب قائمة بالفعل ، بل بسبب احتمال نشوب حرب مستقبلية ، إحتمال يبدو أقرب من مجرد فرضية. الموقف لا يتعلق بإعلان روسيا هجوماً ، بل بتحركات القوات وإعادة رسم الخرائط الاستراتيجية ، مع توتر الأعصاب على أعلى درجاتها.

في تقارير غربية حديثة، تشير المصادر إلى حشد عسكري روسي هائل داخل بيلاروسيا ، حيث تُقدر الأعداد بحوالي 350 ألف جندي، مصحوبة بنشر غير اعتيادي للقوات قرب الحدود البولندية، عضو حلف شمال الأطلسي.
وعلى منصات التواصل الاجتماعي، الصياغة الجاهزة للرواية باتت واضحة : روسيا قادمة لضرب بولندا ، والحرب العالمية الثالثة قاب قوسين أو أدنى.
لكن السؤال الحقيقي ليس : هل روسيا قادرة على الهجوم؟
السؤال الأهم : هل روسيا بالفعل ناوية على الهجوم؟
في هذا التحليل ، سأقدم قراءة استخباراتية معمقة، خطوة بخطوة، لنفكك المشهد العسكري والسياسي في شرق أوروبا، ونربطه بالحرب المستمرة في أوكرانيا ، وبحسابات بوتين الدقيقة ، وردود فعل الناتو ، والدور الأمريكي غير المعلن.
هذه القراءة تتجاوز ما يُعرض في نشرات الأخبار التقليدية، وعند انتهائها ستفهم لماذا التهويل الحالي قد يكون أخطر من الحشد العسكري ذاته.
لنبدأ من البداية ، ولنقسم التحليل إلى ثلاثة محاور رئيسية، مع شرح كل تفصيلة بعناية :
المحور الأول : هل الحشد في بيلاروسيا استعداد لحرب فعلية أم مجرد عرض قوة؟
بدأت القصة عندما كشفت صور الأقمار الصناعية والتقارير الاستخباراتية الأوروبية والأمريكية عن زيادة ملحوظة في الوجود العسكري الروسي داخل بيلاروسيا ، بالتزامن مع التحضيرات لتمارين Zapad المشتركة بين القوات الروسية والبيلاروسية.
الأرقام ضخمة ، والمشهد يبدو مهيبًا ومخيفًا ، ولكن من منظور عسكري محايد ، مجرد الأرقام وحدها لا تعني أن هناك نية غزو فعلية.
أي جيش يستعد لشن هجوم حقيقي يتبع خطوات واضحة تشمل :
تعبئة شاملة داخل العمق الاستراتيجي للبلاد.
نشر مستشفيات ميدانية ضخمة قادرة على دعم العمليات الطويلة.
تخزين واسع للوقود والذخيرة على نطاق يضمن استمرار القتال.
خطابات سياسية تعبوية موجهة للشعب لتبرير القرار العسكري.
الواقع الحالي؟ لا شيء من ذلك يحدث بالقدر الكافي.
غالبية القوات الروسية الموجودة هي وحدات تدريبية، قوات دعم ، ووحدات مشاركة في مناورات ، وليست تشكيلات هجومية مكتملة جاهزة لعبور الحدود. هذا النمط ليس جديدًا؛ فقد ظهر في تمارين Zapad 2017 وZapad 2021، وفي المرتين لم تنشأ حرب فعلية.
بوتين في هذه الحالة يبدو أنه يلعب لعبة مختلفة تمامًا: استعراض قوة، اختبار أعصاب، وإرسال رسائل استراتيجية، موجهة للناتو ، وأمريكا ، والعواصم الأوروبية التي تفكر في زيادة دعمها لأوكرانيا.
المحور الثاني : لماذا بولندا ليست أوكرانيا ولماذا هذا الفارق مهم جدًا؟
كثيرون وقعوا في خطأ شائع عند مقارنة بولندا بأوكرانيا ، لكن الفارق استراتيجي جوهري.
أوكرانيا ليست عضوًا في الناتو ، ولا يوجد التزام دفاع جماعي مباشر ، وكانت منطقة رمادية من الناحية الاستراتيجية.
أما بولندا ، فهي عضو كامل في الناتو ، وموقعها الجغرافي يجعلها جزءًا من العمود الفقري للجناح الشرقي للحلف، وتستضيف قوات أمريكية وبريطانية بشكل دائم.
أي هجوم روسي على بولندا يعني تفعيل المادة الخامسة، ما يعني دخول 31 دولة في مواجهة مباشرة مع روسيا، وتحويل الصراع من حرب إقليمية إلى حرب عالمية فعلية.
بوتين، مهما بدا متهورًا للبعض، ليس انتحاريًا. فتح جبهة مع الناتو في ظل استنزاف الجيش الروسي في أوكرانيا سيعني انتقال الصراع إلى حرب عالمية ، وهو أمر مستبعد في هذه المرحلة.
إذًا ، التحليل الهادئ يشير إلى أن الحشد الحالي أقرب إلى عمليات : ردع ، تحذير ، وإعادة رسم خطوط حمراء ، وليس قرار غزو.
المحور الثالث : الناتو وأمريكا .. لماذا الاستعداد رغم ضعف احتمال الحرب؟
كثيرون يتساءلون : إذا لم تكن هناك نية حقيقية للهجوم، لماذا تقوم بولندا ببناء تحصينات؟ ولماذا يرفع الناتو جاهزيته؟
الإجابة بسيطة لكنها جوهرية : الاستعداد يمنع الحرب ، لا يسببها.
بولندا تبني منظومة East Shield.
الناتو يعزز وجوده في الشرق.
الولايات المتحدة تزيد قواتها في أوروبا الشرقية.
الهدف ليس الخوف ، بل الردع.
إذا كان الخصم ناويًا على الهجوم ، الإستعداد يمنعه.
إذا لم يكن ناوياً ، الاستعداد يمنع أي سوء تقدير قد يؤدي إلى تصعيد خاطئ.
الإدارات الأمريكية ، بما في ذلك ترامب سابقاً ، تدرك أن الخطر الحقيقي ليس الهجوم نفسه ، بل الخطأ في الحسابات.
لماذا التهويل موجود الآن؟
هناك أطراف مستفيدة من تضخيم الرواية :
سياسيون في أوروبا يسعون لزيادة ميزانيات الدفاع.
وسائل إعلام تحقق أرباحًا من بث الخوف.
مراكز قوة سياسية تحب العالم في حالة طوارئ مستمرة.
الواقع يقول : روسيا تضغط ، الناتو يرد ، والكل على حافة الهاوية ، لكن لا أحد يريد الانزلاق نحو الصراع الفعلي.
الخلاصة : ما يجب مراقبته
هناك حشد ، توتر ، واستعداد.
لا توجد دلائل على قرار حرب.
لا مؤشرات لضربة وشيكة.
لا مصلحة حقيقية لروسيا في مواجهة مباشرة مع الناتو الآن.
هذا كله لعبة أعصاب دولية ، كل طرف يحاول إثبات أنه الأكثر صبراً وتحكماً.
التاريخ العسكري يعلمنا أن أغلب الحروب الكبرى لم تبدأ بقرار واعٍ، بل بسوء تقدير، رسالة أُسيء فهمها، أو مناورة فسرت كتهديد.
السؤال الحقيقي : هل نقترب من حرب ، أم من مرحلة أخطر ، حيث أي خطأ صغير قد يشعل الصراع؟
رأيي الشخصي : في شرق أوروبا لا يوجد عد تنازلي لحرب، بل عد تنازلي للأخطاء.
روسيا ليست بحاجة للهجوم ، الناتو لا يريد المواجهة ، وأمريكا لا تسعى لتوسيع الصراع.
لكن التاريخ يعلمنا أن أخطر الحروب هي تلك التي لم يكن أحد يريدها.
لذلك ، ما يجب مراقبته ليس عدد الجنود ولا الأساطيل ولا تصريحات السياسيين ، بل من سيضغط أكثر، ومن سيتأخر في الفرملة ثانية واحدة إضافية.
في السياسة الدولية ، أحياناً لا تبدأ الحرب بقرار ، بل عندما يعتقد أحد الأطراف أن الطرف الآخر قد قرر بالفعل ، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية.




