ابداعات

متى يحين الخلاص؟

بقلم / انتصار عمار 

 

أتُراه بعيدًا ذاك اليوم؟ اليوم الذي ستشرق فيه الشمسُ مرتديةً حُلتها، تباهي القمر بجمالها، وكامل زينتها.

 

عروس في يوم عُرسها، والسماء التي تقرع أنجمها الباب، حاملةً معها أكاليل الزهور لتفترش أرجائها.

 

والنجوم التي تعانق السحاب ، تلتف، وتتراقص حول الشمس والقمر، ويأتي الجميع ليبارك العرس.

 

ويطبع القمر على خديّ الشمس قبلة الحياة، فيهبها الروح التي نُزعت منها عمرًا.

 

تلك القُبلة هي قِبلة المحبين، والتي يؤمها كل عاشقٍ لتراب وطنه.

 

فلسطين هي أرض العزة، أرض العروبة، أرض الشجر، والهواء الطلق، أرض الضحكات، ولعب الصغار.

 

ومن أجمل ما قاله محمود درويش عن غزة؛ لحم غزة يتطاير شظايا قذائف، لا هو سحرٌ، ولا أعجوبة، إنه سلاحها في الدفاع عن بقائها، وفي استنزاف العدو، غزة جزيرة ، كلما انفجرت، وهي لاتكف عن الإنفجار ،خدشت وجه العدو، كسرت وجهه، ووجه أحلامه، وصدته عن الرضا بالزمن.

 

كما قال الإمام الشافعي عن غزة؛ “إني لمشتاقٌ إلى أرض غزة، وإن خانني بعد التفرق كتماني، سقى الله أرضًا لو ظفرت بترابها، كحلت به من شدة الشوق أجفاني”.

 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن غزة وأهلها؛ ومكانكم يا أهل غزة في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، هم إلى الفناء والنسيان صائرون، فإن كنتم مؤمنين حقًا، فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقًا، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سنة الله تعالى أن تُصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والإبتلاء والتمحيص.

 

“إلى هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، وأم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين. سيدتي. أستحق، لأنك سيدتي. أستحق الحياة” (كلمات محمود درويش).

 

مشاهد لا تنتهي من القسوة والحدة والعنف، والوحشية، واللآدمية، ماتت الضحكات في القبور، وتحت أنقاض التراب دفنت.

 

أطفال غزة، أتراهم بأطفال؟

 

كلا وربي، إنهم أشباه رجال، مشروع مستقبل وحاضر مشرق آت، رضعوا حب الوطن، وتغذوا على الصمود والعزيمة، وشبوا على التضحية بالنفس.

 

وتجرعوا مرارة كأس الحياة، وطعموا وقود حروبها الذي لا ينطفيء مطلقًا.

 

لا يرتدون ملابس العيد حين يمر بديارهم العيد صدفًة، ولكنهم يرتدون الأكفان البيضاء.

 

تُرى متى يحين الخلاص؟

        

          متى يحين بزوغ شمس القدس من جديد؟

 

       ومتى يُزال الستار!

 

غزة عروس العرب الجميلة، فاتنةً الشرق، والتي تزينت لعريسها في يوم عُرسها، وظلت تنتظر مجيئه، ولم يأت، وإذ برصاص الإحتلال يخط على منديل عقد القران ألا عُرس، ولا لقاء، ولا بقاء، ولا حياة.

 

وأضحت غزة حزينة، وبدلًا من الأبيض، توشحت بالسواد، وباتت غزة منكسرة، تبكي حالها ليل نهار، حُرمت حبيبي يوم عُرسي، وأضحت الليالي كما بعضها، توقف الزمن بي يوم فارقني، وبت أبكيه يومي وأمسي، 

غاب عني الحبيبُ، وهو الأهل كلهم، وغاب معه حسي.

 

ولم تكف إيدي الإحتلال عن قتل عريس غزة فقط، إنما أمتدت لكل شبر بالبلد”فلسطين”، ونالت من كل صغير فيها وكبير، ودمرت كل شيء، وأطاحت بكل شجرةٍ، وسحقت كل نبت.

 

حتى العجوز لم يسلم آذاهم، ولم يأمن مكرهم، ولعل المشهد يتكرر مرة أخرى عبر آلة الزمن، مشهد “المرأة العجوز، والكلب”.

 

كما حدث سابقًا في عهد النبي(غزوة بني قينقاع) مع المرأة المسلمة زوجة أحد المسلمين الأنصار، والتي كانت في السوق، فقصدت أحد الصاغة اليهود لشراء حُلي لها، وأثناء وجودها في محل الصائغ اليهودي، حاول بعض المستهترين من شباب اليهود كشف وجهها، والحديث إليها، فامتنعت، ونهته.

 

فقام صاحب المحل”الصائغ اليهودي” بربط طرف ثوبها، وعقده إلى ظهرها، فلما وقفت، ارتفع ثوبها، وانكشف جسدها، فأخذ اليهود يضحكون منها.

 

فصاحت تستنجد من يُعينها عليهم، فتقدم رجلٌ مسلم، رأى ما حدث لها، فهجم على اليهودي، فقتله.

 

ولما حاول منعهم عنها، وإخراجها من بينهم، تكاثر عليه اليهود، وقتلوه.

 

نفس المشهد يعاد عرضه مرةً أخرى في دور سينما اللإنسانية والوحشية السادية، ولكن بشكلٍ مختلف.

 

وهو مشهد المرأة العجوز المسنة ذات السبع وستين سنة، والكلب البوليسي المدرب من قبل اليهود.

 

مشهدٌ يأبى القلب أن يُبصره، ولا تحتمل العين رؤيته، كيف لآدمي أن يتجرد من كل معاني الإنسانية؟

 

والله ما هم ببشر، وما أخذوا من الإنسانية سوى رسم أحرفها فقط، ولا يوجد فرقٌ بينهم وبين كلابهم المدربة.

 

فكلٌ منهم منزوعٌ منه الشفقة والرحمة، وكلٌ منهم يندرج تصنيفه تحت طائفة الحيوانات السادية، والتي تتلذذ بتعذيب البشر.

 

من أعطاكم هذا الحق؟ أتظنون أنكم من شرع قانون السماء؟

أو ملكتم مفاتح العدالة في الأرض؟

 

إن أبلغ لغة بنظري المتواضع هي لغة الصمت حينما يتحدث، فتلك حال السيدة العجوز التي تهرب إلى النوم لتجد به ملجأً لخوفها.

وراحةً لأفكار تبيت بعقلها،أفكار تهرب من النوم كل ليلة.

 

سيدةٌ لا تقوى على الحراك، سيدةٌ اتخذت من وشاح الليل غطاءً، ينام بخديها الخوف، ويفترش جبينها الزعر، ويغيب عن سمائها الإحساس بالأمن.

 

مهما كُتب عن هذا المشهد ،فلا قلم يقوى على ترجمة هذا الإحساس أحرفًا وجُملًا.

 

فجميعُ الأقلام تُرفع، وتجف الصحف،ولا يوجد ما يعبر عن مدى الخزي والعار الذي لبسنا ثوبه، عندما أغلقنا نوافذنا خوفًا من رزاز الدم المتطاير من سُقيا شجر الغرقد.

 

حينما أغدقنا علينا جميع الأبواب خوفًا من أن تطرقها أقدام اليهود.

 

 وحينما أطبقنا أجفاننا، فاعتادت أعيننا مشاهد الموت والتعذيب اليومية، وإراقة الدماء، وانتهاك الإنسانية،

 

فلسطين الآبية هي القنطرة ،والجسر الذي نعبر نحن عليها لبوابة الحياة، فهي التي تروي بدمائها شهادة بقائنا بهذه الدنيا، فهي من تدفع ثمن بقاءنا.

 

ذاك الدم الساخن المراق والذي تبكي أرضه ألمًا حين يسيل يحتضن ترابها، وكأنه يودع أمه قائلًا؛ والله يا أمي مهما باعدوا بيني وبينك، لن أتركك ما حييت، لن أترك أرضي، عرضي.

 

جئتُك لأُدفنَ فيك، وبين ثناياك، فهلا إليكِ ضممتيني!

 

أو للكتابة صوت؟

 

أو للكتابة صوت كما للرصاص صوت؟

نعم للكتابة صوت، وصوتٌ مدوي، فقد يُغير القلم أوضاعًا وأحوالًا، وآراءً، وقد يغير من حالة نفسية لأخرى.

 

لذا أكتب وأرسم الأمل في عيون اليأس، وأفتح شُباك الشرفةِ، كي تسكب الشمس أشعتها وتعكس ضوئها عبر نافذة الحياة.

 

أنا على يقين أن النصر قادم لا محالة، آت وإن كنت أنا لست بالحياة، سيأتي هذا وعد الله.

 

قال سبحانه وتعالى في محكم آياته ؛( وقضينا إلى بني إسرائيل لتُفسدن في الأرض مرتين، ولتعلُن علوًا كبيرًا، فإذا جاء وعد أولاهما، بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديد، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا،…. (سورة الإسراء).

 

وسيكتب التاريخ ، ويرسم هالات النصر، وستعزف آلات الحرب سيموفينة عودة الروح ، وسيطوق عنق القدس بطوق الياسمين، ويعانق الحمام مآذن المساجد حين تعلو الأصوات بصلاة النصر فاتحين، وتدق أجراس الكنائس ترانيم بدء عهد جديد.

 

حصاد سنوات عذاب ستموت تحت وطأة أقدامنا، ويُعلن ميلاد هلال جديد، ويسطع في عين السماء، يعانقها معلنًا موعد قدوم العيد.

 

ويأتي العيد، عيد القدس، عيد الأمة، وكأنه لأول مرةٍ بالتاريخ يأتي العيد، ونقيم عرسًا فوق أشلاء جثث العدو المترامية، ونتمايل فرحًا فوق دمائهم الرخيصة، ونسكب عطر الياسمين، ليزيل آثار رائحة خبثه العفنة، ونطهر أرض فلسطين،

 

وتعود عروس العرب فاتنة العاشقين، وتغرد الطيور وتنثر على قبة الصخرة عطور الياسمين.

 

وتعود أغصان الزيتون تحيط خصر قبة الصخرة، ويعانق الحمام أعاليها، وينادى المؤذن في الناس “أن يا عباد الله هيا، هلموا إلى صلاة النصر ، إلى فرحةٍ لا تنقطع مطلقًا، رب الكون معطيها.

 

بعد عناء حربٍ طويلة، حان الوقت ليُنهيها.

 

عسى اليوم هذا يا ربي قريب، وتلك أمنية تسبح في بحر الأماني، الله قادر على أن يرزقنيها .

 

هيا .هيا يارفاق كونوا على تأهب لنداء الآذان لصلاة النصر جمعًا نصليها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!