ابداعات

النفس والآخر بين الانصاف و الصراع

لوحة “زفرة العربي الأخيرة” للرسام الإسباني فرانسيكو براديا والتي تصور خروج أبي عبد الله الأحمر من غرناطة وهو يقف على ربوة متحسرا على ضياع ملكه وملك العرب في الأندلس.

 

أحمد المقدم 

 

لم يزل صراع الحضارات متأججا على مر التاريخ حيث جرت العادة أن تموت حضارة فنشهد أخرى تقوم على أنقاضها. 

 

ويظل صدام الشرق والغرب مستمرا بين الهزيمة و الغلبة كحالة استثنائية يأبى فيها كلا الطرفين الانهيار والتلاشي. 

 

  فمنذ أن خرجت أوروبا من نير عصور الظلام والجهل الوسطى إلى الرحابة الفكرية والعلمية في عصور النهضة منذ القرن الرابع عشر، أخذت موازين القوى في الاتجاه صوب الغرب بعد أن ظلت قرونا في ربوع الشرق الذي طالما نهض على اعتاق علماء موسوعيين في شتى أنحاء المشرق الإسلامي من حدود الصين شرقا وحتى شبه الجزيرة الأيبيرية غربا.  

 

والجدير بالذكر أن هذه الأخيرة هي أول من أستقبلت نسيم النهضة والتطور العلمي بين جميع دول أوروبا، فقد قامت الدولة الإسبانية الحديثة على أنقاض دولة الأندلس التى غابت شمسها منذ سقوط غرناطة في الثاني من يناير عام ١٤٩٢. و على أصداء هذه الذكرى، سنسلط الضوء على نموذجين من المستشرقين الذين أبوا إلا أن يستنشقوا عبير الزهرة الذابلة لحضارة كانت بمنزلة الشمس التي أضاءت ظلمة قد خيمت على أوروبا خلال العصور الوسطى حتى مهدت أوروبا سبل نهضتها فوق ركام حضارة قد ولت ولم يزل أصحابها يتخبطون في عتمة الفقد يتلمسون الطريق إلى استنهاض الهمم من أجل العودة إلى المسار الصحيح.  

 

وإن كان الغرب قد حاز النصر في خضم صراعه الحضاري مع الشرق، إلا أن هناك من مستشرقي الغرب من أقروا بفضل الأخير في كونه شمس قد أضاءت بضيائها العالم كله و قد نال الغرب من قبسها قبل أن تغرب منذ أكثر من ستة قرون من الزمن.  

 

في كتابه “كيف خلق الإسلام العالم الحديث” يستعرض الباحث الأمريكي مارك جراهام اسهامات علماء وفلاسفة المشرق في تطور الحياة الفكرية والعلمية والاجتماعية لدى الغرب. 

 

 كما يسلط الضوء على مختلف الحِقب التاريخية وقتما كان المشرق مستظلا بمظلة الخلافة لمدة أكثر من سبعة قرون وأن تلك الصحاري القفار لم تكن رمالها سوى كنوزا قد أثرت العالم وأزكت نفوسها و أنارت طرقاتها بنور العلم. 

 

 

لقد تحدث جراهام بإنصاف عن كون الدين الإسلامي الحنيف نظاما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا شاملا بكوادر اكاديمية قد صاغت من شريعته نظريات وفقها قد نظم شؤون العامة و أقام مجتمعا قوي الأركان متسقا مع طبيعة الإنسان وفطرته.  

 

وعلى صعيد مشابه، نجد مثالا آخرا من هؤلاء المستشرقين الذين أنصفوا كثيرا في الحديث عن حضارة العرب، ففي كتابه “حضارة العرب” يستعرض الفيلسوف الفرنسي الدكتور جوستاف لوبون مدى قيمة العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين قد أناروا العقول بإسهاماتهم على مر التاريخ، كما لم يتوانى عن توجيه أصابع النقد إلى الغرب الذي قد تمادى في محاولات طمسه لإرث قد ظل قرونا نبع حضارة لا ينضب بما فيه من شتى مباديء الحضارة والمدنية.  

 

وبعيدا عن كون ما قد قيل كلاما مرسلا، فقد تُرك بين يدي القاريء مصدران هما بمنزلة اعتذار قد قدمه بعض من مفكري الغرب المنصفين بحق العرب الذين كانوا وسيعودون هم رواد الحضارة والمدنية مهما حاول سواهم جاهدين طمس هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. فقد سقطت الأندلس و سقطت بعدها الخلافة الإسلامية ولكن لا يزال من يقر بالحقيقة منصفا لمن يستحق الانصاف وناقما على من حاول تشويه التاريخ وطمس الحقيقة من بنى جلدتهم. وفي ذكرى سقوط الأندلس يقول الشاعر محمود غنيم: 

 

مالـي وللنــجـم يرعاني وأرعـاه *** أمســى كلانا يعاف الغمض جفناه

لـي فـيك يا لـيـل آهات أرددهـا *** أواه لو أجدت المـــحزون أواه

لا تحسبنـي محباً أشتكــي وصـبـاً ***أهّون بما في ســبيل الحــب ألقاه

إني تـذكـرت والذكـرى مؤرقـــة *** مجــداً تليداً بأيديــنا أضعــناه

ويح العروبـة كان الـكـون مسرحها *** فأصبحــت تتوارى في زوايــاه

أنّى اتـجـهت إلى الإسلام في بـلـد *** تجده كالطير مقصـــوصاً جناحاه

كم صرّفـتنا يـدٌ كنا نـُصـرّفـهـا *** وبات يحكــمنا شعب ملكنـــاه

هـل تـطلبون مـن المـختار معجزة *** يكفـــيه شعب من الأجداث أحياه

من وحـد العرب حتى صـار واترهـم *** إذا رأى ولد المــوتور آخـــاه

وكيف سـاس رعـاة الشـاة مملـكـة *** ما ساسها قيصر من قبــل أو شاه

ورحـب الـناس بالإسـلام حـين رأوا *** أن الإخـاء وأن العـــدل مغزاه

يا مـن رأى عـمر تـكسوه بردتـه *** والزيت أدم له والكـــوخ مـأواه

يهتـز كـسرى علـى كرسيه فرقــاً *** من بأسه ومـــلوك الروم تخـشاه

هي الـحنيفية عيـن الله تكـلـؤهـا *** فـكـلــما حاولوا تشويهها شاهـوا

سـل المعاني عـنـا إنـنـا عـرب *** شعارنا الـمـجـد يهـــوانا ونهواه

هي الـعروبة لـفـظ إن نطـقت به *** فالشرق والضــاد والإسـلام معناه

استـرشـد الغـرب بالماضي فأرشده *** ونـحـن كان لـنا ماض نـسيـناه

إنّا مشــينا وراء الغرب نقتبـس من *** ضيـائـه فـأصـابتـنا شـظايـاه

بالله سل خلف بحر الـروم عن عرب *** بالأمس كانـوا هنا ما بالهم تاهـوا

فـإن تراءت لك الحمراء عن كثـب *** فسائل الصرح أن الـمجـد والجــاه

وانزل دمشـق وخاطب صخر مسجدها *** عمن بـناه لـعـل الصـخر ينعـاه

وطـف ببغداد وابحـث في مقابرهـا *** عــلّ امرأً مـن بـنـي العباس تلقاه

أين الرشـيد وقد طاف الغمــام بـه *** فـحـيـن جاوزا بـغـداد تـحـداه

هذي مـعالم خـرس كـل واحــدة *** مـنهن قـامـت خـطـيباً فاغراً فاه

الله يشهـد مـا قلـبـت سيرتهـم *** يـومـاً وأخـطأ دمع الـعـين مجراه

ماضٍ نعيشُ علـى أنقـاضـه أمماً *** ونـسـتمد الـقـوى مـن وحيِ ذكراه

لا درّ امرئٍ يـطـري أوائــلـه *** فـخراً ويـطرق إن سـائـلـته ما هو

إنّـِي لأعتـبرُ الإسـلام جـامعـة *** للشـرق لا مـحـض ديـنٌ سـنّهُ الله

أرواحنا تـتلاقـى فـيه خـافـقة *** كالـنحل إذ يـتـلاقـى فـي خـلاياه

دستوره الوحـي والمختار عاهله *** والـمـسـلمون وإن شـتّوا رعـايــاه

لا هـم قـد أصبحت أهواؤنا شيعـاً *** فـامـنـن عـلـينـا براع أنت ترضاه

راع يعـيد إلى الإسـلام سيـرتـه *** يرعى بـنـيه وعـيــن الله تـرعـاه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!