✍️ يوحنا عزمي
إدارة الفترات الإنتقالية هي أصعب واعقد ما يواجه انظمة الحكم الجديدة في مرحلة ما بعد الثورات السياسية والانتفاضات الشعبية التي تطيح بنظام الحكم القائم واحلاله بنظام حكم جديد يختلف إلي حد التناقض التام مع سابقه في توجهاته وخلفياته وفي تصوره للواقع بكل ابعاده وتفاصيله.
ففي هذه الفترات الإنتقالية الصعبة والحساسة ، وبالأخص في مراحلها الأولي ، تتصارع قوي الجديد مع قوي القديم التي تقاوم ولا تريد ان تستسلم ، وفيها تختلف الآراء والمواقف والاجتهادات حول ما يجب ان يكون عليه ترتيب الأولويات والأهداف ، وفيها ايضا قد يرتفع سقف التوقعات والطموحات والتطلعات الشعبية إلي مدي اعلي بكثير مما قد تتبحه إمكانات الواقع من بنية تحتية مدمرة ، واوضاع اقتصادية مهترئة ومتردية ، وضغوط خارجية مستمرة من قوي إقليمية ودولية تحاول استقطاب النظام الجديد او الدفع به في المسار الذي يلائم مصالحها ويتسق مع خططها واستراتيجياتها واهدافها .. وقد تتخذ هذه الضغوط الخارجية صورا واشكالا شتي بعضها سافر واغلبها خفي وغير معلن.
وهذا هو شأن الحالة السورية في المرحلة الراهنة ، فهي الحالة التي ينطبق عليها كل ما ذكرناه واكثر منه ، فنحن امام مجموعات من الشباب المنتمين إلي فصائل دينية مسلحة تسلموا مقاليد الحكم فجأة ودون سابق خبرة سياسية او إدارية كافية تساعدهم علي إدارة هذه العملية الانتقالية البالغة الصعوبة والحساسية والتعقيد بالحنكة والحكمة والمهارة والاقتدار التي يتوقعها كثيرون منهم في كل مكان ، وهو توقع لا يخلو من المبالغة والمغالاة بأي معيار واقعي ، لأنهم وبافتراض الثقة في صدق نواياهم المعلنة سوف يمرون بفترة لا نعرف كم ستطول معهم يتعلمون فيها من التجربة والخطأ ، حتي يتمكنوا بعدها من تصويب اخطائهم وتصحيح مساراتهم التي يتحركون فيها بشعوبهم ومجتمعاتهم نحو المستقبل وهذه هي طبيعة المراحل الانتقالية في حياة الثورات السياسية. ولم تخل ثورة سياسية واحدة منها.
ومما يزيد من صعوبة الأمور في سوريا بشكل خاص ، هو ان مواقف القوي الإقليمية المعنية بما يجري فيها تتوزع بين قوي إقليمية طامعة في أراضيها ومواردها ، وقوي معادية تضمر الشر لها وتتستر علي نواياها بذرائع امنية كاذبة ، وقوي إقليمية اخري متربصة وشامتة ومحرضة علي إثارة القلاقل ونشر الفوضي وعدم الاستقرار للتعجيل بسقوط النظام الجديد علي أمل محاولة إستعادة ما خسرته مع زوال النظام السابق الذي منحها كل شيء .. وهي كلها قوي إقليمية غير عربية وبامكاننا ان نحددها بالأسم.
واما مواقف المجموعة العربية ، فانها تتوزع بين دول عربية أغلبها دول خليجية تحاول الاقتراب من سوريا في ظل نظام حكمها الجديد ، واستقطابها إلي جانبها بتقديم الدعم الإقتصادي لها وإعادة دورها العربي إليها بعد ان اضاعه النظام السابق منها ودول عربية اخري تقبل بما حدث علي مضض وهي حذرة ومتحفظة ومتخوفة من ان تكون هناك خديعة سياسية كبري لم تكشف عن وجهها الحقيقي بعد ، وأنه قد يكون من السابق لأوانه التسرع باحتضان هذا النظام وتمكينه من الاستقرار في مقاعد السلطة ، الخ.
فالمواقف العربية غير متناسقة وتفصل بينها مساحة واسعة من اختلاف التقديرات والتقييمات والاستنتاجات، وبالتالي من المواقف والسياسات والقرارات .. وهو امر واضح تماما ، ويحتمل الكثير من التفسيرات والتاويلات والتوقعات.
واما القوي الدولية الكبري ، فأنه يمكن ايضا تحليل ردود افعالها بشكل مماثل ، اي ما بين مؤيدين ، ومتحفظين ، ومراقبين من بعيد .. ووسط هذه الغابة السياسية الكثيفة من التعارضات والتقاطعات والاختلاف في التقديرات والاحكام بين كل من يعنيهم الشأن السوري ويؤثر علي أمنهم القومي او علي مصالحهم العليا بشكل او آخر ، فإن علي النظام الجديد ان يتحرك ويتقدم ويبلور مواقفه وسياساته وتوجهاته بصورة دقيقة ومتوازنة بما يرضي الجميع ويبدد شكوكهم ومخاوفهم وتحفظاتهم ويقلل من انتقاداتهم له بتركيزهم علي خلفياته الإرهابية المعروفة عنه ، وهو ما يبدو لي امرا مستحيلا من قبل نظام لم يمض عليه في الحكم اكثر من شهر ويواجه فيها اصعب ما يمكن ان تواجهه حكومة انتقالية في اي مكان في العالم علي الصعيدين الداحلي والخارجي.
والأكثر من ذلك هو أنه قد يجري تفسير ما يصدر عن قادته من اقوال وتصريحات علي أنها ليست سوي خداع واكاذيب ومناورات لكسب الوقت ولتثبيت أقدامه في الحكم بعد القضاء علي معارضيه ولهذا فإنه قد يكون من السابق لاوانه التسرع في إصدار أحكام باتة ونهائية الآن والبناء عليها حول طببعة النظام السياسي الجديد في دمشق وما إذا كان تحولا إيجابيا في الإتجاه الصحيح ام أنه سيكون استمراراً لنظام الأسد الدكتاتوري البائد حتي وان اختلفت الوجوه والاسماء او تباينت اللافتات والشعارات او تغيرت شبكة الصداقات والمحالفات .