مقالات

سيناريو التمرد المرتقب في أمريكا

✍️ يوحنا عزمي 

لا يوجد دولة انبرى مثقفيها في مناقشة كيفية انهيارها او تعرضها لكوارث قومية كما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية ، ربما كان سبب ذلك هو حقيقة ان أمريكا ليست دولة قديمة او لها جذور في التاريخ ، عكس أوروبا حتى مع حقيقة ان اغلب الدول الأوروبية لم تحصل على حدودها الحالية إلا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) او ان اغلبها لم يظهر إلا بعد القرن العاشر ميلادياً ، ولكن كان هناك جذور ودول ومجتمعات أخرى قامت على انقاضها الدول الحالية.

والمفارقة – الثانية ـ ان أغلب عتاة المثقفين والمنظرين والاستراتيجيين الأمريكان قد نظروا إلى “التهديد الداخلي” باعتباره الأكثر واقعياً ، مقارنة بالخطر السوفيتي ـ وقت الحرب الباردة ـ او أيا من أنماط الخطر الخارجي فظلت فرضية حدوث تمرد داخلي مسلح او ينتمي إلى الإرهاب السيبراني او البيولوجي وغيره من أنماط الحروب الحديثة هي الفريضة الأكثر حضوراً في كتابات هؤلاء المفكرين.

ربما يعود ذلك ايضاً إلى طبيعة نشأة الولايات المتحدة ، وكيف ان الدستور يسمح بتشكيل ميلشيا وامتلاك السلاح ، وتضم الولايات الأمريكية العشرات من الميلشيات القانونية ويمكن لأى ثري في الولايات الأمريكية ان يمتلك عربات عسكرية إضافة إلى أطنان من السلاح ويمكن لأى منظمة سياسية ايضاً ان تفعل الأمر ذاته وبشكل قانوني تماما.

وادى ذلك إلى ان اغلب الولايات الأمريكية تضم حركات انفصالية تنتهج السلوك السلمي في الدعوة للانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية وحاولت السلطات الفيدرالية قدر الإمكان تفعيل القوانين من اجل حظر تلك المنظمات او ترهيبها باستدعاء الحرس الوطني التابع للقوات المسلحة في كل كبيرة وصغيرة تمر بها الولاية المستهدفة.

والمفارقة الثالثة ان هذا التوتر الداخلي الدائم في الولايات الأمريكية قد أتى على هوى صناع الولايات المتحدة الأمريكية ، شبكات المصالح التي أدارت دولة تقوم برعاية تلك المصالح على الدوام والثمن هو ان تصبح دولة عظمى ، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت على ضوء هذا التوتر الداخلي أصبحت مطالبة بأن تحارب “شرير الكوكب” علي الدوام ، هي أمة يجب ان تكون دائماً في حالة حرب حتى لا تطفو مشاكلها الداخلية على السطح وتبدأ الدولة الأمريكية في التآكل من الداخل.

لذا ورغم قصر عمر الولايات المتحدة الا أنها من اكثر الدول التي خاضت الحروب في الـ 300 سنة الأخيرة ، بل وساهمت في ابتكار “الشرير” في بعض الأحيان لأن الشرير هو “الشرير الضرورة” للأمة الامريكية حتى تستمر بشكلها الحالي .. هو نوع من “الالهاء” وتوحيد أمة منقسمة أمام عدوان خارجي ضخم ، نوع من إستراتيجية “لا صوت يعلو على صوت المعركة”.

ولكن ماذا يريد هذا “التهديد الداخلي” بالضبط ؟

يُنظر إليهم باعتبارهم “يمين قومي”، هم يرفضون الدور العالمي الذى تقوم به أمريكا وينظرون إليه باعتباره استغل وانهك أمريكا بينما أمريكا يمكن ان تلعب دور إقليمي ودولي بحسابات أمريكية وطنية وليس لصالح شبكات المصالح الغربية النيوليبرالية الرأسمالية.

صراع بين “أمريكا الوطنية” و”أمريكا العولمة” ، لا يعرفه إلا أعتى خبراء الشؤون الامريكية ، ويستهين به او يردد رؤية الغرب فيه رغم ان السنوات الأخيرة شهدت صعود تيار القومية الأمريكية وقومية الجنوب الأمريكي ممثلاً في الترامبية بقيادة رئيسها دونالد ترامب.

اليمين القومي الأمريكي ليس على قلب رجل واحد ، بعضهم ينظر إلى النظام الفيدرالي بأنه خطأ ويجب عودة الولايات إلى أنظمتها السابقة باعتبارها جمهوريات مستقلة ، بعض وليس كل الولايات الأمريكية كان كذلك بالفعل ، وبعض التيارات تريد إنسحاب شامل من الدور الدولي والبعض الاخر أعادة هيكلة لصالح أجندة وطنية وليس أجندة العولمة.

زلزال صعود دونالد ترامب عام 2016 أصبح جرس إنذار في الغرب خاصة ان اليمين القومي الإنجليزي صوت في العام ذاته لصالح خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي فيما يعرف اختصاراً بـ بريكست ، وهكذا أصبح نموذج الدولة الوطنية القومية يقارع نموذج العولمة في قلب واشنطن ولندن الدول المحورية في نظام العولمة ذاته.

تلعب السينما دور مهم في الصراع الدولي الجاري بين القوميين والنيوليبرالين ( انصار العولمة ) وفى عام 2020 وفى ظل جائحة كوفيد 19 والاغلاق الكبير ، نشر الروائي الأمريكي من أصول بنجلاديش رومان علام روايته الثالثة بعنوان “اترك العالم خلفك” ينشر سيناريو حدوث تمرد داخلي في الولايات المتحدة الامريكية من وحي أحداث وباء كورونا.

الرواية كانت هدية الأقدار لتيار العولمة داخل الحزب الديموقراطي الأمريكي وتحديداً شلة باراك أوباما ، الرئيس الأمريكي الأسبق الذى أسس مع زوجته ميشيل شركة للإنتاج السينمائي عام 2018 ، ولا عجب في ذلك ، فالولايات المتحدة تفهمت مبكراً أهمية الفن خاصة السينما في حروب الوعي والمعنويات والحروب الثقافية والفكرية ، حتى وصل الأمر إلى ان رئيس اسبق اليوم أصبح يمتلك إمبراطورية سينمائية ويدير بنفسه تلك الحروب.

انتج أوباما وزوجته الفيلم الوثائقي American Factory وفاز بجائزة الأوسكار افضل فيلم وثائقي إضافة إلى جائزة الإيمي ، ثم شارك باراك أوباما بنفسه في فيلم Our Great National Parks وحصل الرئيس الأسبق على جائزة إيمي لافضل راو! ، علماً بأنه سبق وان فاز بجائزتي جرامي عامي 2009 و2017 عن نسخ صوتية لمؤلفاته.

الملاحظ ان اغلب انتاج شركة آل أوباما يأتي بالتعاون مع منصة نتفليكس الراعي الرسمي لقواميس الصوابية السياسية.

تخصصت الشركة في الأفلام الوثائقية ، السلاح العتيد لحروب الوعي ولكن مع أحداث 2020 السياسية قررت الشركة دخول معترك الإنتاج السينمائي ، وتم شراء رواية Leave the World Behind من اجل إنتاجها في فيلم ضخم بعد وضع بعض التعديلات.

تسابق نشطاء الحزب الديموقراطي الأمريكي في محاولة اللحاق بهذا العمل السينمائي ، ايثان هوك حجز الدور الأول ، جوليا روبرتس تحمست وقررت المشاركة في الإنتاج مع آل أوباما ، ومن لا ينتمي إلى الحزب الديموقراطي كان ينتمي إلى كوتة الصوابية في المحافل السينمائية في السنوات الأخيرة المخرج سام إسماعيل الذى شارك في الإنتاج ايضاً ، وأخيراً الممثل الأسمر ماهر شالا علي في دور كان يفترض ان يقوم به دينزل واشنطن ولكن خدمات ماهر شالا علي للصوابية وقواميسها رجحت كفته في دور كان يمكن ان يصبح علامة تاريخية في مسيرة واشنطن لو قام به.

صاغ السيناريو بالشكل المطلوب سام إسماعيل ايضاً ، وهكذا أصبح النص جاهزاً ، حيث يحاول الفيلم نفى فكرة وجود شبكات المصالح الغربية والسخرية منها ، يبدو الفيلم في مشاهده الأولي أنه يناقش فكرة اعتماد البشرية اليوم في كل شيء على وسائل الإتصال الحديثة وشبكة الإنترنت ولكن ما بين السطور رويدا رويداً تفهم حقيقة الإنذار.

انها مخاوف الملا باراك حسين أوباما ، الرئيس والممثل والاذاعي والمنتج والمؤلف والمخرج ، مخاوف النيوليبراليين في أمريكا .. مخاوف العولمة وشبكات المصالح من ان تفقد الولايات المتحدة الأمريكية لصالح الأمريكان.

مناورة من الداخل من ثلاثة مراحل تطيح بحكومة الدولة .. المرحلة الأولى هي العزل ، ضربة سيبرانية تسقط أنظمة الملاحة والمراقبة الجوية والبنوك والأمن .. الهدف إصابة المجتمع والشعب بالشلل والرعب ، نوع حديث من الفوضى الخلاقة .. مع تعطل تلك الأنظمة تحدث حوادث للقطارات والبواخر وفتح بعض القنوات المائية التي تعمل بالأنظمة الرقمية ما يؤدى إلى فيضانات عارمة.

المرحلة الثانية .. الفوضى .. بث معلومات خاطئة .. تنفلت الأعصاب مع غياب الأمن وعدم وجود طعام وماء ودواء تنتشر عمليات السلب والنهب والاغتصاب .. مع فوضى السلاح .. يبدأ الناس في الانقلاب على بعضهم البعض من دون عدو واضح او بدون دافع واضح ، لقد انفلت مرجل الغضب وتفلت الأعصاب فحسب.

المرحلة الثالثة .. التمرد العسكري .. الحرب الأهلية .. الانقلاب .. الانهيار في الرواية الأصلية فأن الجيش الأمريكي اشتبك مع عناصره بعد ان فقدوا الإتصال فيما بينهم واصبح كل فرقة عسكرية امريكية تظن ان الفريق المقابل هو غزو خارجي او عدو محتمل.

اهم ما جاء في الفيلم ..”ان الشعب إذا كان مختلاً بما يكفي فأنه سوف يقوم بالعمل بدلاً من العدو بشكل فعلي”.

هي لعبة أعصاب وحرب نفسية من اجل ان ينفجر الشعب ويهدم النظام الذى يسعى العدو إلى هدمه ولا يملك القدرة على الغزو العسكري ولكن مناورة كهذه قادرة على فعل ذلك دون ادني تدخل خارجي.

يحذر الفيلم بشكل مباشر وصادم من وقوع هذا السيناريو في الولايات المتحدة الأمريكية ، يبدو السيناريو قد عُدل من اجل العرض السينمائي بينما التطبيق السياسي يتضمن هجوم سيبراني رأس حربته قطع الاتصالات يعقبه موجة من الفوضى الخلاقة تشهد شكلاً من اشكال الحرب الأهلية والاقتتال على لقمة العيش وقرص الدواء وشربة الماء ، ثم تنظيمات إرهابية او وطنية تعمل على الأرض كلاً حسب انتمائه.

هذه هي مخاوف دوائر العولمة من فقدان أمريكا .. من تمرد داخلي يشل أمريكا سيبرانياً وينشر حالة من الفوضى من اجل الاستيلاء على السلطة ينتهي الفيلم بسلسلة من النهايات المفتوحة تكاد تحمل إجابات واضحة حول لم شمل العائلتين في الملاذ المجهز بينما البيت الأبيض والجيش الأمريكي يتعرض لهجوم مسلح واسع النطاق وسط حالة من الفوضى وانتشار الأوبئة والاشعاعات نتيجة لسقوط النظام السيبراني الأمريكي.

ولكن بينما الملا باراك حسين أوباما يعرض للأمريكان مخاوفه ويحذرهم منها ، فأنه في الوقت ذاته يفضح تقنيات الثورات الملونة التي صنعتها بلاده بأوامر من شبكات المصالح الغربية على مدار سنوات ، ان سيناريو التمرد الداخلي في أمريكا في هذا الفيلم هو ذاته سيناريو الثورات الملونة بشكل او باخر.

تعيش أمريكا منذ صعود اليمين القومي مرحلة “انقلب السحر على الساحر”، حتى اصبح واحد من اهم رموز المؤامرة الأمريكية مثل باراك أوباما هو الذى يحذر اليوم من المؤامرة في أمريكا بل وينتج بنفسه فيلم يتناول فكرة شبكات المصالح الغربية مع نفي باهت لها لأنه لا يوجد طريقة أخرى لشرح تفاصيل التمرد الداخلي في أمريكا إلا بهذا الشكل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!