ابداعات

فلسطين الناطقة

زينب عبد الحفيظ

في ليلٍ ممطر هادئ، إلا من صوت المطر والرعد، كنتُ أجلس على كرسي خشبي أمام المدفأة، أتصفح هاتفي بمللٍ، وكل حينٍ وآخر أرتشف القليل من فنجان القهوة الموضوع على المنضدة أمامي. جميع أفراد عائلتي خلدوا إلى النوم، إلا أنني ظللتُ مستيقظًا، لا أعلم لماذا. نظرت إلى ساعة يدي، فوجدتها الثانية صباحًا. أطفأت هاتفي ووضعته بجانب القهوة، ثم اتجهت إلى الشرفة ووقفت ساكنًا أراقب الطريق المظلم، إلا من الأضواء الخافتة. كانت المصابيح المعلقة على الطريق ترتعش من شدة المطر. نظرت إلى السماء، فوجدت القمر يركض بسرعة خلف الغيوم، كأنه يريد أن يختفي سريعًا من سماء بلدتنا لقساوة جوها.

كان البرق بين حينٍ وآخر ينير الطريق، وكان صوت الرعد مرعبًا بشدة. وعلى حين غرة، اشتعل البرق والرعد معًا في مشهدٍ مهيب تقشعر له الأبدان. تراجعت إلى الخلف من هول المنظر، وللحظة ظننت أن السماء قد انشقت إلى نصفين، وكأنها غاضبة، أو أن شيئًا ما على وشك الحدوث.

فجأة، توقف كل شيء: المطر والرعد والبرق، وبدأت عاصفة ترابية شديدة تحرك أغصان الشجر بعنف، فكانت تتمايل يمينًا ويسارًا بعشوائية. نظرت إلى الطريق في ذهول من هذا التقلب الغريب في الجو، فرأيت شيئًا غريبًا يقف في منتصف الطريق. ظننت أنني أتوهم، لكن عندما دققت النظر، وجدت شخصًا ما يقف هناك ويمشي ببطء. اهتز قلبي خوفًا وقلت في نفسي: من هذا يا ترى؟! يبدو أنه شبح، فأي إنسان عاقل سيخرج في هذا الجو السيئ؟!

فجأة، أظلم المنزل والطريق، إذ انقطع التيار الكهربائي من شدة الهواء. أنرت هاتفي وكدت أن أبحث عن شموعٍ أضيء بها المنزل، ولكن سمعت طرقات على باب منزلي. ترددت في الذهاب لفتحه، فمن ذا الذي يأتي لزيارتنا في هذا الوقت وبهذا الجو؟!

ظللت دقيقةً واقفًا في مكاني لا أتحرك، دب الرعب في قلبي ولا أعلم ماذا أفعل. قررت أن أتجاهل الطرقات، وذهبت أبحث عن الشموع. وجدت بعضها وأضأت العديد منها في أماكن متفرقة من المنزل. تفاجأت أن الطرقات توقفت.

قررت أن أخلد إلى النوم، لكن عاد الطرق مرة أخرى. ازدرعت ريقي بصعوبة، أمسكت إحدى الشموع بيدي واقتربت من الباب وقلت بصوت خافت: “من هناك؟ من الطارق؟” لكن لم أسمع أي صوت، فقط طرقات خفيفة ورقيقة، وهذا ما زاد قلقي.

كررت سؤالي بصوتٍ أعلى نسبيًا، لكن لم أجد ردًا أيضًا. توقف الطرق لثوانٍ. قررت أن أفتح الباب، وليحدث ما يحدث. فتحته ونظرتُ يمينًا، لا أحد. ثم تلفتُّ يسارًا، فوجدت فتاة ذات شعر مموج غجري أسود يراقصه الهواء. كانت تهم بالمغادرة. أشرتُ بيدي لها وقلت: “هيي، أنتِ يا فتاة!”

وقفت الفتاة واستدارت ببطء، ونظرت إليّ بفرحة، وأقبلت نحوي بخطوات سريعة. وقفت أمامي، وظللت أتفحصها بدهشة. من هذه يا ترى؟ نظرت إلى شعرها المموج، وفستانها ذو الطراز القديم، وحذائها الممزق.

فتاة ذات جمال مبهر، كأنها حورية نزلت من السماء، أو بطلة من أبطال الروايات التي أقرأها دائمًا. نظرت إلى عينيها، فوجدت لونهما يشبه لون الشمس، ومع ضوء الشمعة أصبحت عيناها أكثر إشراقًا، كانت تشع ضوءًا.

قلت بصوت مرتعش: “من أنتِ؟! وماذا تريدين؟”

قالت بكل عفوية وابتسامة تزين ثغرها: “أنا الحسناء.”

عفويتها أجبرت شفتيّ على الابتسام. قلت: “ماذا؟ ‘الحسناء’؟”

قالت: “نعم.”

قلتُ: “حسنًا، ماذا تريدين أيتها الحسناء؟ وما الذي يجعلك تغادرين منزلك في هذا الجو السيئ؟ ألا تخافين؟”

قالت بكل ثقة، وكأن الأمر عادي: “خرجت من البئر للتو، ووجدت الجو في هذه الحالة. لم أكن أعلم أين أذهب! لأنني لا أعلم شيئًا هنا، أنا ضائعة يا هذا!”

وكادت أن تكمل حديثها، لكنني قلت مقاطعًا لها: “بئر؟! هل أنتِ جنية؟ خرجتِ من الأرض؟ نعم، إنكِ جنية! كيف لفتاة طبيعية أن تخرج بهذا الجو؟ والأسوأ أنكِ تقولين ‘خرجتُ من البئر’!”

ابتعدت عدة خطوات إلى الخلف وبدأت أتمتم بعدة أدعية. نظرت إليَّ باستهجان، وانكمش وجهها غيظًا وقالت: “لستُ جنية يا هذا، ما هذا الهراء الذي تقوله؟!”

قلت: “وماذا عن الذي تقولينه؟ أليس بهراء وسخافة؟”

قالت: “هذا ما حدث. أنا لا أكذب، أنا أقول الحقيقة. أنا أيضًا لا أعلم كيف أتيت إلى هنا، ولا أعلم من أنت، وما هذه البلدة الغريبة؟ كنتُ أقف بمنتصف الطريق لا أعلم أين أذهب، كنت خائفة جدًا حتى رأيت ظل أحدهم في منزلك، فجئتُ أطلب المساعدة، لا أكثر.”

واجَهَشت بالبكاء.

تنهدت بحيرة وقلت: “حسنًا، كيف لي أن أساعدك؟ يبدو أن قصتك غريبة. احكي لي ماذا حدث منذ البداية، ربما يمكنني أن أقدم المساعدة.”

بدا أن كلماتي هذه بثت فيها الهدوء، وبدت أجواء المنزل أكثر سكينة، فتوقفت العاصفة الترابية، وتوقفت أغصان الشجر عن التراقص، وأصبحت تتمايل في هدوء. انزاحت الغيوم، وبرز القمر وتوقف عن الركض.

ما هذا التقلب الغريب؟ وكأن السماء كانت تبكي لبكائها، ويصرخ الرعد لأنينها، وتتراقص الأشجار لحيرتها، وكأن العاصفة هبت لتؤنسها من وحدة الطريق.

ابتسمت وقالت: “على الأقل سوف تحاول، صحيح؟”

هززت رأسي إيجابًا.

قالت: “ولكن في أي مدينة نحن؟ ما هذه المباني الكثيرة؟ فإن ‘يافا’ ليس بها هذا الكم من المباني. في أي مدينة من فلسطين أنت يا هذا؟”

قلت مستغربًا: “‘فلسطين’؟ نحن في مصر، أيتها الحسناء. ما الذي يجعلنا نذهب إلى فلسطين؟”

اتسعت عيناها بذهول، ووضعت إحدى يديها على فمها وقالت:

— “ماذا؟! منذ ساعة كنتُ في فلسطين، أركض بحصاني تحت سماء مدينة يافا. ما الذي أتى بي إلى المحروسة؟ فالمسافة بين الدولتين تستغرق ساعات طويلة جدًا!”

وضعت يديها على رأسها، وأصبحت تدور ببطء، تتمتم بصوت مرتعش:

— “ماذا حدث لي؟ ما هذه اللعنة التي حلَّت عليَّ؟”

أمسكت يديها وقلت لها:

— “أرجوكِ، اهْدَئي، أنا حقًا لا أعلم كيف أساعدك. أنتِ تقولين أشياء غريبة، كيف بساعه تأتيين من فلسطين إلى مصر؟ وكيف تتجولين في مدينة يافا بكل أريحية؟ وما الذي يجعلك تركبين حصانًا من الأساس؟ العالم تطور الآن!”

رجعت تنظر لي بغرابة، ثم نظرت إلى المباني والسيارات المصفوفة على جانبي الطريق، وقالت:

— “بأي عام نحن يا هذا؟”

قلت لها:

— “إننا في العام ألفين وخمس وعشرين ميلاديًا.”

قالت بهدوء، كأنها تحادث نفسها:

— “يبدو أنني ظللت أكثر من قرنين في البئر، يا هذا… ليست ساعة واحدة.”

قلت لها بدهشة:

— “كيف؟! قرنين وأكثر؟ ما هذا الهراء؟! هذا يعني أنكِ دخلتِ في فجوة زمنية؟ لكن هذه السخافات نقرأها في الروايات فقط! أهذا يحدث في الحقيقة؟”

نظرت إليها، فوجدتها في حالة ذهول، عيناها التي كانت تشع ضوءًا انطفأت. كانت الأكثر صدمة، والأكثر حزنًا، والأكثر إحباطًا.

قالت بصوت مرتعش وخافت:

— “كيف حال فلسطين، يا هذا؟! ماذا حلَّ ببلدي؟! إنني أشم رائحة الخراب، هناك رائحة نيران في الأفق البعيد… ماذا حدث بها؟!”

اقشعر جسدي لسؤالها، تجمدت في مكاني، واندفعت المياه إلى عينيَّ، واختنق صوتي. أصبحت أزدريء ريقي بصعوبة، وبدأت الدموع تنهمر من عينيَّ ببطء. كانت تنظر إليَّ بفضول وحزن شديد.

قلت لها بصوت متهدج:

— “فلسطين محتلة من قِبل الصهاينة منذ أكثر من سته وسبعين عامًا. احتلت عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانية وأربعين ميلاديًا…”

أصبحت تردد الرقم ببطء، ثم قالت بصوت يحمل غصة:

— “سته وسبعون عامًا من الخراب والدمار والفساد… كيف؟! أين العرب يا هذا؟ أين أنتم؟! جالسون هكذا بكل برود دم وتاركون فلسطين تُغتصب ويُسلب منها حقها؟!”

ثم دخلت في نوبة بكاء حاد.

— “أرجوكِ، اهدئي، أنا حقًا لا أعلم ماذا أفعل الآن…”

فجأة توقفت عن البكاء، مسحت دموعها وقالت:

— “أنا كنت أعلم أن هذا سوف يحدث… كنت أستطيع أن أشم رائحة الأفاعي، يا هذا… كنت أشم رائحةً نتنةً في جو يافا، في كل مكان بفلسطين، منذ أن بدأ اليهود بالهجرة إليها! كنت أستطيع أن أشم رائحة الأفاعي، ولكن لا أحد كان يصدقني! كنت أقول لهم إن الدمار يقترب، وكانوا يتجاهلون حديثي! أرأيت؟! حدث ما كنتُ أتوقعه، كل ما كنتُ أتوقعه، يا هذا!”

تنهدت بمرارة، ثم أردفت:

— “منذ أن أتى ذلك الثري اليهودي الملعون، المدعو موشي مونتفيوري، وبدأ يجمع اليهود حوله، وكانت بريطانيا تساعد هؤلاء اليهود في الهجرة إلى دولتنا بحجة أنها أرض الميعاد! ما هذا الهراء؟! من الذي وضع فكرة تجمُّع اليهود؟! ما هذه السخافة؟! أيُوجد للمسلمين دولة واحدة تجمعهم؟! أم للمسيحيين دولة واحدة؟! تجد جميع الديانات في كل دول العالم، فلماذا لليهود فقط تُقام دولة؟! من الذي أعطى الحق للورد بلفور بأن يمنح وعدًا لليهود، وبالأخص للثري روتشيلد، بأن لهم الحق في دخول بلادنا واحتلالها؟!”

أخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت:

— “في تلك الليلة… شممتُ رائحةً نتنة كادت أن تخنقني… كانت رائحة الأفعى ذاتها، مع نيران… أحسست أن هناك أمرًا في غاية الخطورة سيحدث. امتطيتُ حصاني وبدأت أركض وراء الرائحة بكل سرعة، وقلبي ينتفض! فجأة… توقف الحصان عن الحركة. أصبحت أركله بقدمي كي يتحرك، ولكنه ظل ثابتًا. نزلتُ منه، فرأيت ماءً خُيّل لي أنه يتحرك. سمعتُ صرخةً عاليةً تخرج من البئر الموجود على حافة الطريق! ركضتُ لأرى ما هناك، ولكن… لا شيء. أصبحت أنادي: هل من أحد هنا؟! ولكن لا صوت…”

نظرتُ إليها مشدوهًا، بينما تابعت بصوتٍ مبحوح:

— “وفجأة… رأيتُ الأفعى التي كنتُ أشم رائحتها دومًا، يا هذا… ما أبشع منظرها! سحبتني إلى داخل البئر! صرختُ بفزع، وما شعرت بنفسي إلا عندما ضرب الرعد والبرق سويًا… فأيقظاني! خرجتُ من البئر، ولكنني رأيته… إنه الشيطان الأفعى سيربنت! كان يزحف داخل بلدي، كان يجول فلسطين بكاملها، يا هذا… ولقد نجح في تدميرها! علم أنني كشفتُ أمره، فحبسني داخل البئر أكثر من قرنين!”

وضعت يديها على رأسها مرة أخرى، كأنها تحاول أن تستوعب ما حدث. ربتُّ على يديها وقلت:

— “لا عليكِ… لا تضعي اللوم على أحد، هذا أمر الله. ماذا عسانا أن نفعل؟ هيا، انهضي وادخلي المنزل، استريحي قليلًا.”

نظرت إليَّ بعينين ذابلتين، وقالت بصوت هادئ:

— “لا عليك… يمكنك فقط أن تجلب لي القليل من الماء.”

قلتُ لها:

— “بالطبع.”

دخلتُ سريعًا، جلبتُ كأسًا من الماء، وخرجتُ إليها وأنا أقول:

— “هيا، اشربي وارتاحي قليلًا.”

ولكنني لم أجدها.

انزلق الكأس من يدي، وأصبحتُ أنادي بجنون:

— “أين أنتِ، أيتها الحسناء؟! أين ذهبتِ؟! عودي! أين ذهبتِ؟!”

ثم جلستُ على ركبتي، وضعتُ يدي على رأسي، وهمستُ في ذهول:

— “من هذه يا ترى؟! أكانت جنيّة؟! أم حورية؟! أم أنها…”

رفعتُ رأسي نحو السماء، وصرختُ بكل ما أوتيت من قوة:

— “يبدو أنها فلسطين بذاتها… أتت تشتكي لي حالها!”

ثم شهقتُ بحرقة، وقلتُ: اتت فلسطين لتبكيني حالها، وإن بكت ماذا عساني سأفعل، لم امتلك إلا حفنة من الدموع تزرفهم عينين كلما ذكرت أمامي، اااه يا الغالية، ااه يا الحانية ، لن يضيع بكائك هبائاً، صرخاتك لن تذهب سدى، فربك يعلم. لن يدوم الحال بإذنه، ثم صرخت بألم
“واااااافلسطيناه! وااااااااه، حسناء! واااااا رباه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!