بقلم – جلال الدين محمد
عشر سنوات متواصلة من الغُربة وقت طويل للغاية، تغيرت ملامح الشوارع التي عرفتها، وتشكلت نسخًا جديدة من الناس، لا تُشبه التي عرفتها عنهم سوى في اسمها.
لا أعني بذلك تغيرهم للأسوء، ولكن الصديق الذي كان يقضي اليوم في صالة الألعاب الرياضية، قد تشكلت له بطنًا كبيرة، بعد أن تزوج وأصبح يعيل أسرة من ستة أشخاص، واستحال سواد شعره للأبيض رغم أنه في نهايات ثلاثيناته.
والطفل الذي كنت تُربت على رأسه، وتُعطيه شيئًا من الحلوى، قد صار اليوم رجلًا، له وجهات نظره في كرة القدم والسياسة والحياة الاجتماعية، حتى حبك الأول لا تعلم حتى إذا ما كانت حية أم انتقلت إلى جوار ربها، أظنها كونت أسرة سعيدة مع رجل يعمل محاسب أو شيء من هذا القبيل، وتسكن بجوار والدتها.
ما يبقى هو الود الذي عشناه مع أصدقائنا القدامى، ونحن نتذكر الذي مضى، ولأجل هذا انطلقت بمجرد دخولي المدينة على حين غفلة من أهلها إلى منزل صديقي معاذ، سيفرح كثيرًا حين يراني، كنا لا نفترق أبدًا إلا وقت النوم، ولكنها الدنيا جعلت علاقتي به على مدار عقد من الزمان مقتصرة على تطبيقات المراسلة.
صعدت السلم في حماس، وفجأة صعقني صوتًا يقول “أين كنت يا عامر؟!”، شعرت بصفير في أذني، فرغم مدة غيابي إلا أني مازلت أذكر هذا الصوت، هو العم “عبد القادر” بلا أي شك. من هو العم عبد القادر؟ حسنًا، يمكن وصفه بأسوء كوابيسي.
للرجل خيال أوسع من الصحراء الكبرى، وهو كاذب محترف في سرد القصص التي لم تحدث سوى في مخيلته. صدقني إن عمل في كتابة السيناريو لكان حصد عشرات الجوائز. لم يتزوج ولا عائلة له، ويقضي وقته في اصطياد من يسرد عليهم قصصه على المقهى أو من شرفة المنزل.
كان العم عبد القادر في الستين من عمره حين سافرت، ظننت أنه توفي خلال مدة غيابي، لكني كنت بدلًا من ذلك على موعد مع نسخته السبعينية.
لم يكن بوسعي تجاهل الرجل، جررت قدمي نحوه وأنا اتكلف الابتسام، واقول “مرحبًا عمي عبد القادر مر وقت طويل ولكني…”، قبل أن أكمل جملتي ألقي الرجل حمولة يده بين أحضاني وهو يقول في لهجة آمره، ساعدني أيها الغائب على ترتيب المنزل صديقك مايزال في عمله.
وهكذا علقت لساعتين مع المسن المزعج، حاولت الهرب منه بتحضير كوبين من الشاي، وكانت الخطة أن احتسيها معه، وانصرف بهدوء، على أن اتصل بمعاذ لألقاه على المقهى ليلًا.
وبمجرد أن وضعت الشاي، وارتشف الرجل المسن جرعته الأولى منه في استمتاع، باغتني بقول “كوب شاي مثل هذا أفسد على مصر المحروسة ثورة 1919”. مُعلنًا بتلك العبارة عن قصة جديدة، يمكنني أن أقسم بكل ما هو مقدس أنه اختلقها الآن.
مقاطعة الرجل في حديثه؟ صدقني لا يوجد في هذه الدنيا من يستطيع فعل ذلك، عليك الابتسام وهز رأسك حتى ينتهي من تلقاء نفسه.
تابع العم عبد القادر، اجتمع الزعيم سعد زغلول مع رفاقه في الكفاح الوطني، وكانت الخطة مباغتة الإنجليز الذين أفسدوا بلدنا، استجمعت شجاعتي لأقول للرجل “يا سيد عبد القادر أنت لم تكن قد ولدت حتى في عام 1919”.
رمقني باستهزاء وهو يقول، وهل يخفى شيء على من ألبسه الرئيس السادات ساعة الصفر في حرب أكتوبر؟! لأتحرك بشكل لا إرادي مُقبلًا يد الرجل، وأنا أتوسل إليه أن يتابع قصته الأولى.
فربت على رأسي وكأني حيوانه الأليف، وتابع، كان الفدائيون يتحركون بسلاسة في المحروسة، وتركوا سرًا في غاية الأهمية مع صديق لأبي، ولكنه رأي أن كوبًا من الشاي سيجعلهم أكثر عزيمة في مواجهة الإنجليز.
وبعد أن حضر رفاق الكفاح الشاي، سكبه “عبد المنعم” على الخطاب الذي كتبه الزعيم سعد زغلول بنفسه بالحبر السري، ليضيع وتضيع معه أحلام التحرر من الإنجليز وقتها.
رسمت نظرة تجمع بين البلاهة والإنبهار، لا بحقيقة القصة، ولكن بخيال الرجل الذي لم يعجز عن إبهاري يومًا، وفجأة قطع الحديث صوت “معاذ” وهو يقول أحضرت لك الحليب يا عم عبد القادر.
التفت بخفة وأنا أنظر إليه في حنين، ليبتسم بدوره في سعادة، بينما تسربت دموع من عينه، ولكن قرار تأجيل العناق كان المثالي هنا، بسرعة البرق أخذت الحليب من يد “معاذ” واضعًا إياه على الطاولة، ثم تظاهرت أني اشتم شيئًا وقلت لمعاذ، هناك حريق في منزلك ألا تشم الرائحة.
ليُمسك معاذ بيدي وهو يقول، نعم، نعم، عن إذنك يا عم عبد القادر، يجب إيقاف الكارثة. وأطلق كلانا ساقيه للريح تمامًا كما كنا نفعل في صبانا، ونحن ننظر لبعضنا في سعادة غامرة، بينما صاح الرجل، تشجعوا يا أولاد، لا تدعوا ما حدث في حريق القاهرة يتكرر، بدأ كل شيء في المقهى يومها صدقوني. سأترك هذه القصة لمعاذ يسمعها من السيد عبد القادر في يوم آخر.