بقلم:ضياء علي الدعاس
ما أعمق الجرح الذي أصاب قلبنا عندما تحوّل العدل إلى شعارٍ يُرفع في الميادين ليُغلق في أبراجٍ عاجية، وسُدَّ الطريق أمامه بأبواق المصالح الشخصية. لا يزال العديد من المجتمعات اليوم يتقاذف ظلال العدالة ويتسابقون للوصول إليها، وإن كانت تُحكم في النهاية بأيدي غير أمينة، أو من وراء سترٍ مبطّنٍ بالكذب.
لكن إذا نظرنا إلى الوراء، إلى التاريخ الذي كتبته الدولة الأموية في أبهى أوجهها، سنجد دروسًا يمكن أن تضيء دربنا المعتم. في تلك الحقبة الزمنية، كانت العدالة لا تقتصر على القوانين التي يقرّها الحكام، بل كانت في القلب من كل اجتماع، وفي كل نظرةٍ تُعطي لآلام الآخرين قبل أن تُصاغ في محاكمهم. نعم، كانت العدالة روحًا حية تسري في الأفراد قبل أن تكون مجرد أوراقٍ في المحاكم. كان الحاكم الأموي يعي جيدًا أن العدالة لا تُبنى على مجد الجيوش وحروب الفتوحات فحسب، بل تُبنى على فهم عميق للأخلاق والواجب.
في بغداد، في عصر الدولة الأموية، كان الناس يعيشون من دون تفرقةٍ طائفيةٍ أو طبقية. لا وجود لحواجز بين فئات المجتمع، بل كانت روح التسامح هي السائدة. كان العدل بين الناس، سواء كانوا من مسلمي العهد الأموي، أو غيرهم من أهل الكتاب، هو الرؤى التي جعلت من هذه الدولة واحدةً من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ. لم يكن اختلاف الدين أو العرق يشكّل حاجزًا أمام الحق؛ بل كانت المساواة سيدة الموقف. ومن هنا تبدأ تلك العدالة التي نبحث عنها اليوم، والتي يجب أن نعود إليها.
هذه العدالة التي نجد أصداءها في قرطبة الأندلسية، حيث كانت المدينة تحتضن المبدعين، العلماء، الفلاسفة، والتجار، ويعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في تناغمٍ شديدٍ. كان للفكر أن يُعبّر عن نفسه بحرية، وللعدالة أن تُبنى على احترام حقوق الجميع، بغض النظر عن معتقداتهم أو ثقافاتهم. الدولة الأموية في الأندلس كانت تُجسد مفهومًا رائعًا من العدالة، حيث كان العلماء يتنازعون حول الفلسفة، بينما القيم الاجتماعية، الأخلاقية، والإنسانية، تجد مساحتها في كل زاوية.
في تلك الفترات، يمكننا أن نتعلم أن التعايش الحقيقي بين مختلف الأديان والثقافات كان يكمن في احترام الحقوق الإنسانية أولًا. في دمشق وقرطبة، كان العلم مفتوحًا للجميع، وكان الرأي محترمًا والعدل سائدًا. لقد كان للمجتمع الأموي قدرة فريدة على جمع المختلفين في بوتقةٍ واحدة، وتوجيههم نحو هدفٍ واحد: خدمة الإنسانية ورفعته.
إن البحث عن العدالة الحقيقية يتطلب منا العودة إلى تلك القيم الأصيلة، التي تُنير الدروب بحكمتها. لا يمكن لمجتمعٍ أن يكون قويًّا إلا عندما يتفهم أن العدالة ليست مجرّد قانون يُفرض، بل هي مسؤولية أخلاقية تضع مصلحة المجتمع قبل أي شيء آخر. فلا فرق بين شخص وآخر في حقه في العدالة، ولعلنا نعود إلى تلك الأيام العظيمة التي لم تكن فيها الجدران تفصل بين الناس، بل كانت العدالة هي الجسر الذي يربط بينهم جميعًا.
اليوم، يتعين علينا أن نرفع درجة وعينا بأن هناك محاولاتٍ من جهاتٍ غير مأمونة، لا تبتغي سوى تفرقة المجتمع وتمزيقه. إنها محاولاتٌ تروج للأكاذيب وتؤجج النزاعات بين الأفراد من خلال سياسة الفتن والخداع، مستغلة الفروقات بين الطوائف والمعتقدات. إننا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بحاجة إلى وعيٍ حقيقيٍّ، يعيدنا إلى جوهر العدالة الذي أرساه أجدادنا، ويقف أمام محاولات تشويه الحقائق. إننا بحاجة إلى أن نفتح عقولنا ونفوسنا لاستيعاب الحقائق الكامنة في تجربتنا التاريخية، وأن نتمسك بقيم العدالة والمساواة، بعيدًا عن الأصوات التي تسعى إلى زرع الفتن.
اليوم، يمكننا أن نتعلم من تلك الفترات العظيمة التي سادت فيها العدالة، والتي تكفلت فيها الدولة الأموية بجعل العدالة قيمةً حية في المجتمع. لكن هذا لا يعني أن نعيش في الماضي، بل أن نستلهم منه ونغذّي حاضرنا بتلك القيم. فالمستقبل لا يتشكل إلا من خلال العدل الذي يسود بين الناس، والوعي الذي يرتقي بالإنسان إلى مستوى أسمى من المعتقدات الضيقة.
لا يمكن لأحدٍ أن ينكر أننا نعيش في عالمٍ معقد، حيث تتداخل فيه المصالح والأيدي الخفية التي تحاول دائمًا تحويل العدالة إلى مجرد كذبةٍ لا تليق بالإنسانية. ومع ذلك، ما زال لدينا الأمل في أن العدالة هي السبيل الوحيد لبناء مستقبلٍ كريمٍ للجميع. إن وعي الفرد هو السلاح الأقوى الذي نملك في هذه المعركة، فإذا أصبحنا جميعًا واعين لما يحدث حولنا، وتعلمنا من تاريخنا، سنتمكن من العيش في عالمٍ يسيطر عليه الحق والعدل، كما كان الحال في تلك العصور التي أضاءت الأرض بنور الحقيقة.
إذن، لنكن نحن من يصنع التغيير. لنعش بأخلاق الأجداد، ولنسعى لبناء مجتمعٍ عادلٍ حيث لا مكان للفوارق بين الناس، ولا مجال للفتن التي تحاول تمزيق وحدتنا. العدالة، كما علمتنا التاريخ، ليست مجرد شعارٍ، بل هي عملٌ يوميٌّ، يتمثل في أفعالنا قبل كلماتنا. فلتكن العدالة مفتاحنا إلى غدٍ أفضل، ولنظل نتذكر دائمًا أن الوعي هو ما يُخرجنا من الظلام إلى النور.