زينب عبد الحفيظ
إن لم ترَ طوال حياتك رجلًا يبكي، فيا لحظك الوافر.
لقد هيئت لك الفرصة لترى؛ فاجلب أمتعتك ومتاعك، واجلس لترقب تبعثر الغضب في أجواء ممتلئة بالتناقض.
أمعن السمع، وتلذّذ بصوت قلبٍ متهشّم، يُدهَس بحذاءٍ أنثوي راقٍ باللون الأحمر.
فتاةٌ يا رجل، ساحقة الكبرياء بكفٍّ صغيرٍ ناعم، ترتدي بمعصمها أساور معتّقة من الذهب اللامع، وعلى شفتيها مكرٌ ممزوجٌ ببراءةٍ صادقة.
ليست ذات جمالٍ باهر، لكنها تجذب أعين الأقوام دون أن تشنّ معارك أنثوية لإثارة الانتباه.
يقف لها أعتى الرجال بجاحةً واحترامًا. لا تدري أهي مربكة أم ذات حضورٍ حنون، لكنها ترغمك على الاستقامة أمامها؛ كأنها ملكة لإحدى الدول العظمى.
تضرب الباطل بالحق، فتتزعزع صفوف مجتمعٍ ساير ومسيَّر بكفوف قومٍ أقدمون، بزمانٍ جافٍ ترعرعت فيه.
كبرت بين قيلٍ وقال، وتدليسِ حكايا كانت يومًا طاهرة، أو أقل فجورًا مما يُخطّون.
“وهل للفتيات حرية الرأي؟”
سؤالٌ صدح بأذنها وارتجّت له حواسها.
وقفت لتلتقط بقية الحديث، فإذا بجملةٍ أشد عنفًا تصدع جسدها اللين، وتصلّب أطرافها:
“إنها لكِ، لا مفاوضة في ذلك.”
بهت الوجه الجميل في بركة مجتمعٍ ناقم على النساء، مطموس هويّتهن، طامسٌ لأبسط حقٍّ من حقوقها وهو الاختيار.
جلست تفكر وتقرأ في كتب حقوق المرأة، تتفرّس المواقع، وتجاذبت أطراف الحديث مع الكبار والصغار والمارة؛ فلم تستنتج سوى إجابة واحدة تتردّد على الألسنة:
الخضوع للرياح ليس ضعفًا، بل لتفادي حمولتها من الأتربة والأحجار.
وقفت تُطالع خيالها، وتتطلّع إلى طموحها برجل طالما حلمت به. لم تره، لكنها كانت تدوّن صفاته بذاكرتها على أمل ملاقاته.
وقفت تناطح واقعًا مكروهًا لها.
تحتقر المرأةُ من لا قيمة له، وإن كان ذا قامةٍ وشدّة.
سألته بعينيها: “أمَا ترى رفضي الحازم لك؟”
فأجابت عيناه على سؤالٍ آخر: “نعم، أريدك. اخترتُكِ أنتِ دون سواك.”
تُثيرين بداخلي فضولًا؛ فأنتِ صاحبة الغموض.
أريدكِ، وإن كان رغمًا… مُرغَمة.
حضرت شياطين الرفض، وتأجّج الإصرار.
ودبّت حربٌ مشتعلة، صامتة؛ جنودها مقلتان، ورموش حادّة، ونظرات كالقذائف المشتعلة تُطلِقها منها.
بينما هو يُدثّر اللهب بثناياه، ويصدّ وهج نفورها بكلتا يديه.
يعلم أنّها تتطلّع إلى الآفاق، لكنّه أيضًا مثلها…
هي الآفاق بالنسبة له.
ولكلٍّ آفاقٌ وقممٌ مختلفة يسعى إليها.
تباطأت الحركة، وتوقّف مسار الدماء بداخله، حين أماطت اللثام عن أسنانٍ متساوية كصفوف المعارك.
يمكنه أن يجثو على ركبتيه الآن، منحنٍ لرقتها المغرية القاتلة.
هكذا رآها بموقفٍ كانت تستخدم فيه كامل عنفوانها لتحمي نفسها من الوقوع في خطأ جسيم، وقالت بصوت بدا له حنونًا لكنه كان يقطر حدّة:
“لست أجيد الكِبْر ولا أحبّه، ولا أحترم من يحبّه… لكن أرجوك أن تتفهم أننا غير متساويين.”
تدارك الوضع، وعرف الطريق الذي ستتدحرج به صواعق حديثها، الذي يُؤدّي إلى تفتّت كبرياء الرجال أمام حججٍ يبرهنون بها أنّ الرفض عيب، وأنّ بالضرورة يكمن عيب لم يره بعد.
فقاطعها بقوة، وردم غيظها بجملة جعلتها تقف دون ملاذٍ تحتمي به من حقيقتها السخيفة:
“لا تتعالَي على سفح الجبال دون أن تنظري إلى قممها؛ فربما في باطن الصخور كنزٌ مضمر أغلى من خيبات طموحاتك التي تبحثين عنها.”
صُعقت لعمق حديثه، وأدركت – بعد فوات الأوان – أنها أهانت حجرًا كريمًا باهظ الثمن، ظنّت أنه بلا قيمة.
فبكت هي، ولم يبكِ هو… على فتاةٍ تعالت دون وجه حق.
لا يا هذا، لم يبكِ الرجال هنا،
بل يضربون كِبر النفس بقبضةٍ من حُكم.