رحمة خميس
— إنه يحتاج إلى هذه العملية لإنقاذ حياته وحياة الآخرين.
— هيا، سريعًا… اعطني المصل المضاد قبل أن ينتهي مفعول المخدر.
— أيها الطبيب، هل يرانا؟
الطبيب (بهمس): لا… لا يشعر بنا. هيا لننقله إلى غرفة العناية حتى يتعافى ويعود لعمله.
“أبي… أبي، هيا استيقظ.”
الصوت الذي جرّده من النوم. فتح عينيه ببطء في مكتبه، وتلقّت عيناه ضوء النافذة الخافت وصدى حلم ظل يطارده طوال عشرين سنة. رائحة المعقّمات من غرفة الاجتماعات لا زالت تتسلل إليه، وساعة المكتب تنقر بإيقاع بطيء وكئيب.
نهض ببطء، اعتدل في مقعده ونظر إلى ابنه الذي يحاول أن يركز على ملامحه:
— صباح الخير. ما الذي أتى بك إلى هنا؟
نظر إليه الابن بعتاب قليل:
— لقد كنت طيلة هذا الأسبوع في عملك، أتيت لأعطيك الطعام من والدتي. إنها قلقة جدًا.
ابتسم الأب ونظر إلى الصندوق بنهم:
— جاء في وقته المناسب. قل لوالدتك لا تقلق، سأتصل بها بعد أن أفرغ الطعام. هيا اذهب لعملك، لماذا ما زلت هنا؟
ضحك الابن بخبث وجلس بجانب أبيه:
— أنا في عملي بالفعل.
توقف الأب لوهلة، مستغربًا:
— ماذا تقصد؟
أخرج الابن ملفًا من وراء ظهره وأعطاه بضع أوراق متتالية وهو يبتسم: التقطها الأب ونظر إليها حتى توجهته الدهشة. قال الابن بسرعة:
— لقد نقلت عملي إلى قسم الجرائم الخطرة تحت إمرتك. والأمر صدر من الرئيس، ولا رجعة فيه. أنا هنا لأبدأ عملي وأساعدك قليلًا في القضايا المستعصية التي لم تُحل بعد.
ربت الأب على أذن ابنه كما يفعل مع الطفل المدلل:
— تحاول اللعب معي؟ حسنًا يا هاشم، ستبدأ العمل تحت إمرتي، لكن تحمل ما سيحدث.
قام هاشم بالتحية الرسمية قائلاً:
— حسنًا، سيادة العميد صالح. أتطلع للعمل معك.
تتبع هاشم نظر والده حتى وجده يتجه إلى النافذة، يرفع شِراعها ببطء. خلف النافذة لوحة كبيرة، عليها صور متعددة، عنوانها البارز: “قائمة المختفين” — وليس اسم واحدًا له.
تفحص هاشم الصور بتمعن. في أقصى اليمين صورة لشاب في مقتبل العمر يُدعى أيمن؛ اختفى بعد عشرين يومًا من تشخيصه بالتليف وظهور الأعراض. بجواره صورة فتاة اسمها مريم — اختفت بعد عشرين يومًا من التشخيص أيضاً. تتابعت الصور: وجوه، تواريخ، علامات استفهام كبيرة.
نظرت العينان إلى وسط اللوحة حيث اسم الطبيب الذي تكرر ظهوره في سجلات الاختفاء: “أشرف عبد المسيح”. حدّث هاشم والده بدهشة:
— الطبيب أشرف عبد المسيح؟ إنه والد صديقي معتز. لماذا الشك به؟ لقد حاول مساعدة المرضى لكن لم يلتفت إليه أحد.
رد الأب بوجه متجهم قليلًا:
— هذا ما جعلنا نشتبه فيه. جميع الضحايا كانوا تحت تشخيصه أو في عيادته قبل اختفائهم.
تفاجأ هاشم:
— طوال العشرون عامًا كان الوحيد؟
أجاب الأب:
— نعم. هو الوحيد الذي اكتشف المرض ثم ظهر في وسائل الإعلام يُحذر من تفاقمه ويأمر الناس بالذهاب إليه عند ظهور الأعراض.
قال هاشم متسائلاً:
— طيب… لماذا تم الشك بأنه قاتل؟
أجاب الأب ببرود:
— لأن بعد التشخيص بِعشرون يومًا تختفي جميع الحالات. لا نجد جثثًا، ولا أثر. لا شيء.
ضحك هاشم، محاولًا أن يخفف التوتر بسخرية:
— أظن أنه أقام منظمة سرية لعلاجهم، سيعودون بعد شفائهم، لا تقلق يا أبي. لقد رأيت ذلك في العديد من المسلسلات والافلام خاصة الفيلم الكوري “الساحرة”. اطمئن يا أبي سيجدوك مهما طال غيابهم.
ابتسم الأب بسخرية، ثم قال مازحًا:
— حديثك هذا يجعلني أشك إنك شريك صاحب المنظمة أو مساعده.
ربت هاشم على كتف والده وقال بسخرية:
— لو طلب مني ذلك لن أتأخر.
كان هاشم يمزح، لكنه شعر بوخزة غريبة في صدره، كأن جزءًا من روحه يعرف شيئًا لا يريد عقله الاعتراف به؛ ذكرٌ عابر لوقتٍ غامض شكّل فجوة في ذاكرة أحدهم. (لم يكن دفاعًا عن السخرية فقط، بل خيط رقيق من شيء أعمق.)
وضع الأب يده على كومة من الأوراق وأعطاها لابنه:
— اقرأ هذه الأوراق. ستعرف أكثر عن المرض.
أمسك هاشم الكومة وبدأ يقرأ أول ورقة عنوانها: التليف الدموي
يحدث نتيجة إصابة الدورة الدموية؛ هو مرض نادر يجعل كرات الدم أكثر صلابة، وتتكوّن ندبات دقيقة على الشرايين، فيصبح الجسم مثل أنبوب ماء مسدود.
ثم تتابعت الفقرات بصيغة تقريرية واضحة:
الأعراض الأولية للتليف الدموي:
صداع متكرر.
تنميل في الأطراف.
إرهاق مُستمر.
المرحلة الثانية من المرض:
جلطات صغيرة متكررة تُسبب نسيانًا قصير المدى.
قطع قراءة هاشم رنين هاتفه. رفعه بتأففٍ ليجد اسم “تارا التمريض”. ابتعد قليلًا عن والده وأجاب:
— ألو… أهلًا تارا.
قالت تارا بهمس وبصوت ينضح بالقلق:
— هاشم… أحتاج منك معروفًا بسيطًا، بما إنك ضابط. هناك مريض داخل مع الطبيب أشرف؛ مرّ على علاجه بالتليف الدموي عشرون يومًا، واليوم آخر يوم في علاجه، ولن يعود بعده.
اجتاح الانتباه وجه هاشم:
— وكيف عرفتِ ذلك؟
أجابت تارا:
— لديه رعشة في يده وتلعثم واضح في حديثه إنه في المرحلة الثانية من المرض
لقد أتى للطبيب لمدة عشرين يومًا ثم بعد ذلك سيختفي. من ممكن أن تأتي للعيادة لتراقبه عند نزوله واللحاق به.
هاشم: وما مصلحتك من ذلك؟
تارا: ستعرف حين تأتي، لا تتأخر سيخرج قريبًا من غرفة الكشف.
رد هاشم:
— حسنًا… سآتي قريبًا، سأراقبه حتى يخرج من العيادة. لا تقلقي.
أغلق المكالمة، وضع الهاتف في جيبه، ونظر إلى والده قائلاً:
— سوف أمرر على بعض الأوراق الهامة لزميلي في مكتبي القديم. لن أتأخر.
ابتسم الأب بسخرية خفيفة وجلس على مكتبه:
— حسنًا. لا تتأخر، تارا قبل أن تختفي هي الأخرى مع المريض.
يُتبع…
العشرون يومًا 2
نظر هاشم إلى والده بدهشة قطعته عن الكلام، لكن قبل أن يفتح صالح فمه دخل الرئيس بعصبية جعلت الهواء ينقبض في المكتب.
— ما الذي دهاك يا صالح؟ هل يئست من القبض على سفّاح التليف الدموي؟!
نظر صالح إلى الرئيس، ثم عاد بعينيه إلى هاشم قائلًا بصوت هادئ متوتر:
— اذهب يا هاشم، سنكمل لاحقًا.
تبادل هاشم نظرة سريعة بلا كلمات ثم خرج.
خرج من القسم كله، ووقف عند سيارته لحظة يفكّك فيها كلام تارا، قبل أن يقود متجهًا نحو العيادة.
أوقف السيارة على بُعد خطوات، وظل يراقب الباب.
قطع تفكيره صوت رسالة منها:
(خرج المريض الآن، أين أنت؟)
رفع رأسه فورًا ورأى رجلًا في الأربعين يسير مترنحًا مع رعشة في قدميه واضحة، وصدره يعلو ويهبط بإعياء.
ترجّل هاشم يتعقّبه وقبل أن يمد يده لمساعدته، سقط الرجل فجأة.
هرول هاشم إليه، لكن الرجل نهض في نفس اللحظة وكأن شيئًا لم يحدث.
لا رعشة،
لا إعياء.
يمشي بثبات بارد غريب.
تجمد هاشم بمكانه، ثم لحقه، لكن الرجل أسرع فجأة واختفى خلف العيادة.
وصل هاشم إلى المكان لكنه وجد حائط صلب.
لا باب.
لا نافذة.
لا شيء.
داخل العيادة، كانت تارا تحاول التركيز حتى قطع تفكيرها مريض جديد:
— موعدي الآن؟
لم تجب، فخرج الطبيب أشرف من غرفته:
— نعم، تفضل.
ثم التفت لتارا:
— هل بقي أحد؟
— لا… هذا المريض الأخير اليوم.
وقبل أن تستعيد توازنها، ظهر هاشم بابتسامة هادئة:
— أهلا تارا، كيف حالك؟
تجمدت قليلًا:
— أهلا… هل لديك موعد؟
— نعم، سأقابل عمي الطبيب. اتفقت مع معتز سابقًا أن نلتقي هنا. ألم يأتِ؟
— معتز؟ لا لم يخبرني.
— حسنًا، سأنتظر.
جلس أمام غرفة الطبيب، يقلب هاتفه بملل.
وصلته رسالة منها:
(هل معتز سيأتي؟ ولماذا لم تتحدث معي مباشرة عن المريض؟)
كتب دون أن ينظر إليها:
(الكاميرات هنا جودتها عالية بالصوت. الطبيب أشرف قال لك ذلك، أليس كذلك؟)
نظرت إليه بصدمة وكتبت سريعًا:
(بها صوت؟! أنا تحدثت معك منذ الصباح هنا. هذا مقلق!)
ضحك هاشم بخفة، وما زال يتجاهل نظراتها.
خرج المريض، وتبعه الطبيب أشرف الذي انفرج وجهه حين رأى هاشم:
— صديق معتز العزيز! كيف حالك يا بني؟
احتضنه هاشم وقال:
— بخير يا عمي… اشتقت إليك.
ربّت أشرف على كتفه:
— تفضل معي.
ثم التفت لتارا:
— فنجان قهوة وكوب شاي. وراجعي الكاميرات قبل أن تغادري وأرسلي تقريرًا.
نظرت إليه بدهشة:
— حسنًا.
دخل أشرف الغرفة وجلس، وقال لهاشم:
— كيف حال عملك؟ وكيف حياتك؟
— بخير. لقد انتقلت اليوم لقسم الجرائم الخطرة والعمل مع والدي.
اتسعت عينا أشرف:
— بهذه السرعة؟!
— ليس بفضل والدي، لكن بأمر من الرئيس نفسه.
ضحك أشرف:
— كيف وجدته؟
— في حقيقة الأمر أشعر بملل. قضية التليف الدموي بلا أي تقدم.
ثبت الطبيب نظرته عليه:
— وكيف رأيتها أنت؟
— لم أفهم شيئًا. لذلك جئت إليك، أنت مكتشف المرض وأدرى الناس به.
ضحك أشرف:
— هل تشك بي يا ولد؟
— أبدًا. فقط لم أستوعب طبيعة المرض بالكامل.
تنهد الطبيب:
— التليف الدموي هو مرض نادر. حيث الدم يتليف تدريجيًا، والشرايين يحدث بها ندبات. كما أن الجسم يتحول إلى أنبوب ماء مسدود.
قاطعه هاشم بملل:
— أعرف تلك التفاصيل، لكنني أريد المرحلة التالية. ماذا يحدث بعد عشرين يومًا؟
— جلطات صغيرة، نسيان، رعشة، تلعثم.
بعد شهر ونصف يحدث شلل، سكتة دماغية أو قلبية مما يؤدي إلى الموت المفاجئ كنتيجة حتمية.
— هل يوجد علاج حقيقي؟
— نعم لكن معقد ومكلف، وليس متاحًا بعد.
تأمله هاشم وقال:
— لماذا كل المرضى يأتون إليك وحدك؟ الصحافة تذكر اسمك فقط مكتشف للمرض، والشرطة تشك بك علنًا.
ضحك الطبيب ضحكة قصيرة غريبة:
— من الطبيعي، لأنني الطبيب الوحيد الذي ظهر اسمه أولًا. لكنني لست قاتلًا، ولا أعمل مع منظمة سرية تعالجهم!
أنا فقط، أرى الرفض والعناد يوميًا وقلبي يتمزق عليهم.
— (قلبي يتمزق؟)
قالها هاشم ساخرًا في نفسه:
أراهن أنك تمزق شرايينهم وتبيع دمهم المتجلط للماسونية لتعود شابًا… أنت والمرضى أمثالك.
قال هاشم بوجه هادئ:
— شكرًا يا عمي، كنت بحاجة لهذا التوضيح.
غادر العيادة وعاد للمكان الذي اختفى عنده الرجل.
لا شيء.
مجرد حائط.
رن هاتفه ليجد تارا:
— ماذا فعلت؟ أين اختفى؟
— لم أجده. هل يوجد باب خلف العيادة؟
— لا… فقط موقف سيارات والطبيب أشرف يصف سيارته هناك.
أنهى المكالمة، واستمر في التفتيش بلا نتيجة.
على الجانب الآخر
جلس صالح مهمومًا يفكر.
— هل ذهب هاشم لأشرف؟
سأله عبد الله زميله.
— نعم… ولا يرد.
— من الطبيعي، الحماس الأول في العمل سيعود بخفيّ حنين مثلنا.
— وإن لم يعد؟
— سيفرغ فضوله فقط. لا تقلق.
في الساعة 12 منتصف الليل.
هاشم مختبئًا خلف سيارة في الشارع الخلفي،
جواله مغلق، وتارا وأبوه يتصلان بلا توقف.
سبع ساعات انتظار. مع شعور غريب بالقلق ينهش صدره.
اقترب صوت سيارة، وما إن سمعها هاشم انبطح فورًا تحت السيارة التي اختبأ ورائها.
كما أخرج هاتفه وبدأ التصوير.
رأى أقدامًا ونقالة صغيرة مثل نقالة الإسعاف ثم اختفت.
ثم سيارة أخرى خلفهم، زعم أنها سيارة الطبيب أشرف.
وقف هاشم بسرعة حين رحلوا وتفحص هاتفه ليجد نقالة صغيرة تخرج من باب سري في الحائط وعليها شخص مستلقي وورائهم يقف الطبيب أشرف يحمل معهم النقالة للسيارة، وبعدها ذهب لسيارته لتختفي سيارته مع سيارة الإسعاف الأخرى.
اتجه هاشم للمكان لكنه كان مجرد حائط. لكن حين مرر يده شعر بارتجاج خفيف ثم ضغط ليفُتح الحائط بصمت كأنه باب مصمم للغيب.
دخل هاشم مسرعًا وأغلق الباب خلفه، فانقطع عن العالم الخارجي تمامًا. ابتلعه ظلام كثيف وصمت مطبق، لم يقطعه سوى صوت أنفاسه المتسارعة. ضغط على زر مصباح هاتفه، فشقّ شعاع الضوء الأبيض العتمة ليكشف عن المشهد أمامه.
كان أول ما ضربه هو برودة قاسية، برودة لا تشبه هواء الليل، بل برودة صناعية حادة تخترق الملابس وتلامس العظام مباشرة، مصحوبة برائحة غريبة، مزيج من رائحة المعقمات الطبية الحادة ورائحة خفيفة تشبه رائحة المعدن الصدئ أو الدم الجاف.
صعد الدرج الحجري بخطوات حذرة، وكان صوت حذائه هو الصدى الوحيد في المكان. كل درجة كانت تقوده أعمق إلى المجهول. وصل أخيرًا إلى باب حديدي ثقيل، تعلوه لمبة حمراء صغيرة تلقي وهجًا مخيفًا على لافتة معدنية نُقش عليها ببرود: (الغرفة 20).
أدار المقبض المعدني البارد، ودفعه بجهد ليصدر الباب صريرًا خافتًا مكتومًا. ما إن انفتح الباب حتى استقبله ضوء أزرق خافت، ينبعث من شاشات جهاز ضخم على يمينه يصدر أزيزًا كهربائيًا منخفضًا ومنتظمًا، كأنه قلب المكان النابض. كانت الغرفة أشبه بمختبر سري أكثر من كونها غرفة عادية.
على يساره، اصطفت عدة أسرة طبية فارغة ببطانيات مطوية بدقة عسكرية.
لكن ما جمّد الدم في عروقه كان مجموعة من الأنابيب الزجاجية الطويلة المتصلة بالجهاز الضخم، يتدفق بداخلها ببطء سائل وردي لزج، يتوهج بشكل غريب تحت الضوء الخافت.
كان يشبه الدم، لكنه أكثر كثافة، وكأنه حياة مسلوبة محفوظة في زجاج.
اقترب من الأنابيب، وشعر بالبرودة المنبعثة من زجاجها وهو يمرر يده عليها. حاول فتح إحدى الحاويات لكنها كانت محكمة الإغلاق. كان الهواء ثقيلاً، مشبعًا بالترقب والخطر.
التفت ببصره، فوقع نظره على مكتب معدني صغير في زاوية الغرفة. لم يكن عليه سوى شيء واحد: ملف أسود مغلق، يبدو وكأنه ينتظره.
توقف كل شيء حوله للحظة.. الأزيز، البرودة، رائحة الموت المعلق في الهواء. لم يعد هناك سوى هو، وذلك الملف الذي قد يحمل كل الإجابات… أو المزيد من الكوابيس.
ما إن فتحه ليجد في الصفحة الأولى:
اليوم: 20
الحالة: جاهزة للنقل.
التوقيع: أ.ع.م.
يُتبع……
العشرون يومًا (الجزء الأخير)
توقف كل شيء. الأزيز، البرودة، رائحة الموت في الهواء. لم يعد هناك سوى هو، وذلك الملف الذي يحمل كل الإجابات… أو المزيد من الكوابيس.
لكن عقل هاشم لم يتوقف عند الملف. دفعه فضول محموم لاستكشاف المكان. تحرك بخفة، متجاوزًا الأنابيب المتوهجة، وتوجه نحو دولاب معدني ضخم يقف في الركن البعيد من الغرفة. كان مقفلاً، لكن قفله بدا بسيطًا. أخرج مشبكًا معدنيًا من جيبه، وبخبرة اكتسبها من سنوات عمله، عبث بالقفل حتى سمع صوت “طقة” خفيفة.
انفتح الباب ليكشف عن صف من الملفات السميكة، مرقمة من 1 إلى 20. سحب الملف رقم 1 الخاص بـ “أيمن”، أول اسم رآه على لوحة المختفين. كانت المعلومات بالداخل أكثر تفصيلًا بكثير مما لدى الشرطة. تاريخ طبي كامل، فصيلة دم نادرة، وحتى ملاحظات دقيقة عن استجابة جسده للمرض يومًا بيوم. أدرك أن كل ملف يخص واحدًا من المختفين.
أعاد الملف، لكن شيئًا آخر لفت انتباهه. ورقة منفصلة مدسوسة خلف الملفات، مكتوبة بخط يد متوتر. كانت للطبيب أشرف.
“اليوم العشرون هو نقطة التحول. الدم لا يموت، بل يتغير. يتحول من حالته السائلة إلى كتلة هلامية غنية بالطاقة بشكل لا يصدق. الجهاز قادر على فصل هذه المادة قبل أن تتفكك كرات الدم تمامًا. هذه المادة أظهرت نتائج مذهلة في تجديد الخلايا… قادرة على إيقاف نمو الأورام السرطانية في مراحلها المتأخرة. الجهة تطلب المزيد. الطلب عاجل.”
اتسعت عينا هاشم وهو يربط الخيوط. إذن أشرف لا يقتلهم. هو يحصدهم ويسحب دماءهم المتحولة ليبيعها لجهة غامضة تستخدمها كعلاج للسرطان. لكن… ماذا عن المرضى أنفسهم؟
صوت بارد جاء من خلفه، جعله ينتفض في مكانه:
— المريض لا يهم. هو مجرد وعاء مؤقت.
استدار هاشم ببطء ليجد الطبيب أشرف واقفًا عند الباب، وعلى وجهه تعبير مخيف، لا يوحي بأي مفاجأة. أكمل أشرف وكأنه يكمل محاضرة علمية:
— بعد سحب المادة، يتفكك هيكل الدم تمامًا. الجسد يصبح فارغًا، بلا قيمة. الجهة تتخلص منه بهدوء ولا يمكن ترك أي أثر للشرطة.
اقترب هاشم منه، والغضب يغلي في عروقه:
— أنت لست طبيبًا! أنت وحش تقتل الناس لتبيع دماءهم.
ضحك أشرف ضحكة قصيرة خالية من المرح:
— أنا لست قاتلًا يا هاشم. أنا منقذ للإنسانية. هل تعلم كم شخصًا يمكن إنقاذه بدم مريض واحد؟ المئات!
أنا أوازن بين حياة شخص محكوم عليه بالموت بكل الأحوال، وحياة مئات آخرين لديهم أمل في الشفاء. إنها معادلة بسيطة.
— ومن أعطاك الحق لتقرر من يعيش ومن يموت؟!
— نفس الحق الذي أعطى والدك القرار.
تجمد هاشم
— والدي؟
ابتسم أشرف ابتسامة ماكرة، وأشار إلى مكتبه:
— كل ما تريد معرفته عن مرض والدك موجود في الملف رقم 21.
بخطوات ثقيلة تحرك هاشم نحو المكتب. كان هناك ملف وحيد، مختلف عن البقية. فتحه بيدين مرتعشتين. في الصفحة الأولى، كانت صورة والده، العميد صالح، وتحتها كُتب:
التشخيص: إيجابي.
الحالة: بداية المرحلة الثانية.
اليوم: 19.
شعر هاشم أن الأرض تميد من تحته. نظر إلى أشرف بعينين زائغتين.
ثم قال أشرف ببرود:
— والدك سيختفي قريبًا. نهايته اقتربت، وهو يرفض العلاج. لقد قرر التضحية. ألم يخبرك أن والدتك مريضة بالسرطان؟ كانا يخفيان الأمر عنك. دم والدك هو فرصتها الوحيدة للنجاة.
ترك هاشم كل شيء وركض. خرج من الباب السري، من العيادة، من الشارع بأكمله، وعقله يردد جملة واحدة: أبي.. اليوم 19.
هرع إلى قسم الشرطة، لكن مكتب والده كان فارغًا. اتصل بهاتفه، مغلق. في تلك اللحظة، رن هاتفه. كان معتز، ابن الطبيب أشرف.
— هاشم… والدتك… لقد نقلوها إلى المستشفى.
لم ينتظر المزيد. قاد سيارته بجنون إلى المستشفى، ووجد والدته في غرفتها، شاحبة ومتعبة، لكنها كانت نائمة حين رآها.
نظر إليه معتز وقال: والدتك قالت لي أن أعطيك هذه الرسالة.
“ابني الحبيب،
عندما تقرأ هذه الكلمات، سأكون قد اتخذت مسلكي الأخير. لا تحزن، فهذه ليست النهاية، بل هي البداية لحياة جديدة لمن أحب. لقد خذلني جسدي لكنه لن يخذلني في منح أمك فرصة أخرى. الطبيب أشرف ليس له أمان، لقد بدأ يبتزني بعد أن تحسنت حالة والدتك بالجرعتين الأولتين. لا تثق به. عندما أختفي يجب أن تذهب إليه، وتأخذ منه ما هو حق لوالدتك. كن أنت مشرفًا على علاجها. أعلم أنني أترك على عاتقك مسؤولية كبيرة، لكنني أعرف أنك رجل وقادر عليها. وداعًا يا هاشم.”
شعر هاشم بالدموع تحرق عينيه. قبّل رأس والدته النائمة ذات الجسد المنهك من جلسات الكيماوي، وخرج من المستشفى كالإعصار. وهدف واحد في رأسه: عيادة أشرف.
اقتحم الغرفة السرية مرة أخرى، لكنها كانت فارغة تمامًا. لا أجهزة، لا أنابيب، لا ملفات. لقد أزال أشرف كل أثر. يأس هاشم وكاد ينهار، لكنه لمح ورقة صغيرة سقطت تحت المكتب. التقطها، ليجد عليها شعارًا رسميًا، وتحته كُتب:
وزارة شؤون الرئاسة – مشروع الرئيس القادم: صالح عبد الرسول.
قبل أن يستوعب عقله معنى الكلمات، شعر بضربة حادة وقوية على مؤخرة رأسه. ابتلعه الظلام مرة أخرى.
بعد ثلاثة أشهر.
فتح هاشم عينيه على ضوء أبيض ساطع. كان في غرفة المستشفى التي قنط بها شهور، ووالدته تجلس بجانبه، تبدو بصحة أفضل بكثير. لكنه لم يكن يتذكر شيئًا.
تم إخباره أنه تعرض لحادث، ودخل في غيبوبة.
مر شهر آخر، بدأ فيه يستعيد عافيته، لكن ذاكرته كانت لا تزال ضبابية.
في مساء يوم هادئ النسيم، كان هاشم يشاهد التلفاز بملل لكنه توقف عند قناة ظهر بها خبر عاجل:
“فوز ساحق للمرشح المستقل الرئيس الجديد للبلاد”
ظهر على الشاشة رجل وسيم في أوائل الأربعين، يبتسم بثقة وجاذبية. بدا مألوفًا بشكل غريب. في تلك اللحظة، دخلت والدته وهي تحمل ألبوم صور زفافهما القديم. فتحته أمامه، فرأى صورة والده الشاب..لقد كان نسخة طبق الأصل من الرئيس الجديد على الشاشة.
بدأت الصور تتدافع في رأسه كالسيل.
الحائط السري،
الغرفة 20،
الملفات،
رسالة والده،
الورقة التي تحمل شعار الرئاسة…
مشروع الرئيس القادم: صالح عبد الرسول
على شاشة التلفاز، سأل المذيع الرئيس الجديد:
— سيادة الرئيس، في لحظة انتصارك هذه، من تحب أن تشكر؟
ابتسم الرئيس ابتسامة هادئة، ونظر مباشرة إلى الكاميرا، وكأنه ينظر إلى هاشم عبر الزمن والمسافات، وقال بصوت ثابت:
— أحب أن أشكر كل من تركتهم ورائي لأحقق هذا الحلم… وأولهم، هاشم.
توقف كل شيء للمرة الثالثة.
لم تكن تضحية. لقد كانت صفقة.
لم يكن اختفاءً. لقد كان ميلادًا جديدًا.
والده لم يمت… بل تخلى عنه وعن هويته، من أجل الكرسي.
نظر هاشم إلى الشاشة، وإلى وجه الرجل الذي كان يومًا أباه، وأدرك أن لغز “التليف الدموي” لم يكن سوى فصل صغير في قصة خيانة أكبر بكثير.
النهاية




