ابداعات

العشرون يومًا (الجزء الأول) 

رحمة خميس

 

 

 

— إنه يحتاج إلى هذه العملية لإنقاذ حياته وحياة الآخرين.

— هيا، سريعًا… اعطني المصل المضاد قبل أن ينتهي مفعول المخدر.

 

— أيها الطبيب، هل يرانا؟

الطبيب (بهمس): لا… لا يشعر بنا. هيا لننقله إلى غرفة العناية حتى يتعافى ويعود لعمله.

 

“أبي… أبي، هيا استيقظ.”

 

الصوت الذي جرّده من النوم. فتح عينيه ببطء في مكتبه، وتلقّت عيناه ضوء النافذة الخافت وصدى حلم ظل يطارده طوال عشرين سنة. رائحة المعقّمات من غرفة الاجتماعات لا زالت تتسلل إليه، وساعة المكتب تنقر بإيقاع بطيء وكئيب.

 

نهض ببطء، اعتدل في مقعده ونظر إلى ابنه الذي يحاول أن يركز على ملامحه:

— صباح الخير. ما الذي أتى بك إلى هنا؟

 

نظر إليه الابن بعتاب قليل:

— لقد كنت طيلة هذا الأسبوع في عملك، أتيت لأعطيك الطعام من والدتي. إنها قلقة جدًا.

 

ابتسم الأب ونظر إلى الصندوق بنهم:

— جاء في وقته المناسب. قل لوالدتك لا تقلق، سأتصل بها بعد أن أفرغ الطعام. هيا اذهب لعملك، لماذا ما زلت هنا؟

 

ضحك الابن بخبث وجلس بجانب أبيه:

— أنا في عملي بالفعل.

 

توقف الأب لوهلة، مستغربًا:

— ماذا تقصد؟

 

أخرج الابن ملفًا من وراء ظهره وأعطاه بضع أوراق متتالية وهو يبتسم: التقطها الأب ونظر إليها حتى توجهته الدهشة. قال الابن بسرعة:

— لقد نقلت عملي إلى قسم الجرائم الخطرة تحت إمرتك. والأمر صدر من الرئيس، ولا رجعة فيه. أنا هنا لأبدأ عملي وأساعدك قليلًا في القضايا المستعصية التي لم تُحل بعد.

 

ربت الأب على أذن ابنه كما يفعل مع الطفل المدلل:

— تحاول اللعب معي؟ حسنًا يا هاشم، ستبدأ العمل تحت إمرتي، لكن تحمل ما سيحدث.

 

قام هاشم بالتحية الرسمية قائلاً:

— حسنًا، سيادة العميد صالح. أتطلع للعمل معك.

 

تتبع هاشم نظر والده حتى وجده يتجه إلى النافذة، يرفع شِراعها ببطء. خلف النافذة لوحة كبيرة، عليها صور متعددة، عنوانها البارز: “قائمة المختفين” — وليس اسم واحدًا له.

 

تفحص هاشم الصور بتمعن. في أقصى اليمين صورة لشاب في مقتبل العمر يُدعى أيمن؛ اختفى بعد عشرين يومًا من تشخيصه بالتليف وظهور الأعراض. بجواره صورة فتاة اسمها مريم — اختفت بعد عشرين يومًا من التشخيص أيضاً. تتابعت الصور: وجوه، تواريخ، علامات استفهام كبيرة.

 

نظرت العينان إلى وسط اللوحة حيث اسم الطبيب الذي تكرر ظهوره في سجلات الاختفاء: “أشرف عبد المسيح”. حدّث هاشم والده بدهشة:

— الطبيب أشرف عبد المسيح؟ إنه والد صديقي معتز. لماذا الشك به؟ لقد حاول مساعدة المرضى لكن لم يلتفت إليه أحد.

 

رد الأب بوجه متجهم قليلًا:

— هذا ما جعلنا نشتبه فيه. جميع الضحايا كانوا تحت تشخيصه أو في عيادته قبل اختفائهم.

 

تفاجأ هاشم:

— طوال العشرون عامًا كان الوحيد؟

 

أجاب الأب:

— نعم. هو الوحيد الذي اكتشف المرض ثم ظهر في وسائل الإعلام يُحذر من تفاقمه ويأمر الناس بالذهاب إليه عند ظهور الأعراض.

 

قال هاشم متسائلاً:

— طيب… لماذا تم الشك بأنه قاتل؟

 

أجاب الأب ببرود:

— لأن بعد التشخيص بِعشرون يومًا تختفي جميع الحالات. لا نجد جثثًا، ولا أثر. لا شيء.

 

ضحك هاشم، محاولًا أن يخفف التوتر بسخرية:

— أظن أنه أقام منظمة سرية لعلاجهم، سيعودون بعد شفائهم، لا تقلق يا أبي. لقد رأيت ذلك في العديد من المسلسلات والافلام خاصة الفيلم الكوري “الساحرة”. اطمئن يا أبي سيجدوك مهما طال غيابهم.

 

ابتسم الأب بسخرية، ثم قال مازحًا:

— حديثك هذا يجعلني أشك إنك شريك صاحب المنظمة أو مساعده.

 

ربت هاشم على كتف والده وقال بسخرية:

— لو طلب مني ذلك لن أتأخر.

 

كان هاشم يمزح، لكنه شعر بوخزة غريبة في صدره، كأن جزءًا من روحه يعرف شيئًا لا يريد عقله الاعتراف به؛ ذكرٌ عابر لوقتٍ غامض شكّل فجوة في ذاكرة أحدهم. (لم يكن دفاعًا عن السخرية فقط، بل خيط رقيق من شيء أعمق.)

 

وضع الأب يده على كومة من الأوراق وأعطاها لابنه:

— اقرأ هذه الأوراق. ستعرف أكثر عن المرض.

 

أمسك هاشم الكومة وبدأ يقرأ أول ورقة عنوانها: التليف الدموي

 

يحدث نتيجة إصابة الدورة الدموية؛ هو مرض نادر يجعل كرات الدم أكثر صلابة، وتتكوّن ندبات دقيقة على الشرايين، فيصبح الجسم مثل أنبوب ماء مسدود.

 

ثم تتابعت الفقرات بصيغة تقريرية واضحة:

 

الأعراض الأولية للتليف الدموي:

 

صداع متكرر.

 

تنميل في الأطراف.

 

إرهاق مُستمر.

 

المرحلة الثانية من المرض:

جلطات صغيرة متكررة تُسبب نسيانًا قصير المدى.

 

قطع قراءة هاشم رنين هاتفه. رفعه بتأففٍ ليجد اسم “تارا التمريض”. ابتعد قليلًا عن والده وأجاب:

— ألو… أهلًا تارا.

 

قالت تارا بهمس وبصوت ينضح بالقلق:

— هاشم… أحتاج منك معروفًا بسيطًا، بما إنك ضابط. هناك مريض داخل مع الطبيب أشرف؛ مرّ على علاجه بالتليف الدموي عشرون يومًا، واليوم آخر يوم في علاجه، ولن يعود بعده.

 

اجتاح الانتباه وجه هاشم:

— وكيف عرفتِ ذلك؟

 

أجابت تارا:

— لديه رعشة في يده وتلعثم واضح في حديثه إنه في المرحلة الثانية من المرض

لقد أتى للطبيب لمدة عشرين يومًا ثم بعد ذلك سيختفي. من ممكن أن تأتي للعيادة لتراقبه عند نزوله واللحاق به.

 

هاشم: وما مصلحتك من ذلك؟

تارا: ستعرف حين تأتي، لا تتأخر سيخرج قريبًا من غرفة الكشف.

 

رد هاشم:

— حسنًا… سآتي قريبًا، سأراقبه حتى يخرج من العيادة. لا تقلقي.

 

أغلق المكالمة، وضع الهاتف في جيبه، ونظر إلى والده قائلاً:

— سوف أمرر على بعض الأوراق الهامة لزميلي في مكتبي القديم. لن أتأخر.

 

ابتسم الأب بسخرية خفيفة وجلس على مكتبه:

— حسنًا. لا تتأخر، تارا قبل أن تختفي هي الأخرى مع المريض.

 

يُتبع…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!