ابداعات

..أنثى عمياء

بقلم / انتصار عمار 

 

 

لم يكن خريفًا كأي خريف؛ فلقد كان خريفًا بنكهة صيفٍ، حُلوة شمسه، زاهية مشرقة.

 

 

كامرأة هبطت من سفوح الجمال، ذات بشرة متوهجة، وملامح وضاءة، وقوامٍ ممشوق ، تُمال له القلوب، وتُفتن به العيون.

 

 

خريفًا تساقطت فيه أوراقي القديمة، الباهتة، الهشة، ولم يلبد سمائيَ الغيوم.

 

 

كان مزيجًا من ربيع، وصيف يتعانقان سويًا، كفنجان قهوة، مذابٍ فيه قطعة سكر، تُقبل شفاه البن.

 

 

كحبيبٍ تاق شوقًا لحبيبه بعد طول غياب، واستبدلت أشجاريَ ثيابها البالية، وارتدت من حلة الثياب ظلالًا ألوانها تأسر العين.

 

وكأنها لوحة فنية ، احتضنتها يد الطبيعة، وأكملتها أنت، حين أتيت.

 

 

حينما وطأت بقدميك أرضي، وبرق ضياؤك في سمائي، وكمُلت بك قصيدتي الشاردة، التائهة عن عنواني.

 

 

كعادتي كنت أتنقل بين الحقول، أداعب عيون الزهر، وأُقبل عطره، وتصافح أوراقه أوتار قلبي.

 

 

ألهو والفراشات الملونة الرقيقة، أحاكي الطبيعة، وأُسرها حكاياتي .

 

 

ودونما أشعر، خرجت عن حيز الحقل، وسرت أمشى وشعاع الشمس يحملني بجناحيه.

 

وعلى حين غفلة، وشرود مني، إذ بقدمي ينزلق في بئر عميق، لم أكن أعلم أنه هو البئر المسحور الذي يُقال عنه.

 

 

سمعت عنه كثيرًا، لكن لم أكن أتوقع أن تقترب منه خطاي؛ عميق عمقه، يُطبق عليك أضلعه.

 

 

وكأنه صياد فرح بسمكته الوحيدة، التي التقطتها صنارته، بعد شدة عناء، وطول انتظار.

 

 

يهوِي بك في طياته، يغرقك بمائه، ورغم أنه ضَيّق عليك الخناق، ورغم ثلوجة ماءه، إلا أنك تهوى هذا الخناق.

 

 

وتحب برودته، وتعشق هذا الأسر، بل وتذوب هوىً في قيوده التي يِلفها حولك، ولا تريد أن ينتشلك أحد من هذا الجب.

 

 

الجب المسحور، الذي سحرني، ونقش تعويذات بعقلي، وختم على قلبي بأحرف لا تُفك طلاسمها.

 

 

إنه بئر هواك، حينما هويت به، حينما لاقيتك وطرقت باب فصوليَ الأربعة، وانتزعت مني صيفًا كنت أهواه، وأحياه شمسًا لا تغيب.

 

 

وجعلتني أحيا خريفًا جماله أنت، عشقت الخريف بك، رأيت جمالك في عيونه، ورأيت أوراقي تتساقط و أنفاسك.

 

 

حييتك فصول السنة كلها خريفًا، ازدهر عمري وأينع معه، تعاهدنا على البقاء سويًا، تواعدنا أن أسكن فيك.

 

 

وانتظرت يوم الوعد الأكبر، يوم الميثاق الغليظ، وأنا أرتديك ثوبَ فرحي، وأضع هواك مساحيق أُجمل بها ملامحَ وجهي.

 

 

وأنفاس صدرك قلادةً أزين بها عنقي، وكلماتك التي لطالما أسمعتني إياها، سيمفونية عُرسي.

 

 

وإذ بك تأتيني مرتديًا وجهًا لا أعرفه، وملامحًا أتعبت عيني في تفسير خطوطها.

 

وثيابًا لا تحمل زغاريدَ العُرس، ونظرات كلها حيرة، ولحظ يلتهم كل سؤالٍ يدور بذهني الخائف.

 

 

وقسوة ترشق سكينها في قلبيَ الذي يتلهف لاحتضان شوقك.

 

 

جئتني بأوراق الأسى، لتنثرها حول خصري، مكتوبًا عليها “رحيل”.

 

 

وتفرش أدمعي بساطًا تحت قدميك، وتُخبر وداعًا، وأن حياتك دونها تستحيل.

 

وتُودع قلبي مهب نيرانٍ مشتعلة، لا تكف حريق.

 

 

دعني أسألك؛ ماذا عن هواي؟ ماذا عن فستاني الأبيض الذي صممته بين جنبات قلبك؟

 

ماذا عن قلادتي التي ارتديتها في حضن حبك؟ وماذا عن عقود الياسمين التي أينعت في ربوع لحظك؟

 

 

أو كنت أنثى عمياء حين أحببتك؟ أأنا العمياء التي لم تبصر طريقها إلا بك! ولكنك كنت أنت الذي أضللني الطريق.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!