رحمة خميس
في عالمٍ يصاحبه الصخب من كل حدبٍ وصوب؛ الأصوات، الأحاديث، وضجيج الأفكار، يبدو بينهم وكأنه لغة مفقودة، شفرة سريّة لا يتقنها إلا أولئك الذين فهموا أن للكلمات حدودًا، وأن وراءه عوالم من المعاني لا تقدر عليها اللغة.
يظنّوه البعض أنه الفراغ، وأنه غياب للكلام، أو عجز عن التعبير، لكنه أحيانًا هو حضورٌ مضاعف؛ حضورٌ للوعي، للفكر، وللإحساس الذي لا يمكن أن تحمله الكلمات.
يشبه مرآة تعكس ما لا تصل إليه العيون، ولا تصل إليه الأذن لسماعه.
تراه في عناق طويل أصدق من الحديث، والإبتسامة التي تختصر كل الحكايا. في لحظات الحب العميق يكتمل حين لا تحتاج القلوب أن تنطق.
وعندما يعجز اللسان عن ترجمة ألم الروح، هو أبلغ من كل صرخة تكتمها العبرة، وأقسى من كل اعتراف.
وعندما يختاروه العلماء، لتفادي تشوّه المعنى، صمتٌ ناتج عن الإصغاء قد يكون الحل الوحيد لهم في فهم الحياة.
لا يمكن أن نُجزم أنه هروبًا، بل مواجهة من نوع آخر. إنه الوقت الذي نُهديه لأنفسنا، لنستمع إلى عمقنا، لنراقب ما يحدث حولنا بوضوح حينها ستصمت الفوضى.
فيه نسمع الصوت الذي نتجاهله منذ أن نُفِخ فينا. نسمع مخاوف، أحلام جارت عليها أنفسنا، وحتى تلك الأسئلة التي كنا نهرب منها.
يُكشف معه التردد، الغضب، الحب، أو حتى الخيانة. معه نجد أنه أكثر وضوحًا بيننا وبين الآخرين من الكلمات.
اليوم أصبحنا نهابه بشده. نملؤه بمحادثات فارغة، بصوت التلفاز، أو بضجيج هواتفنا، إنه نفسنا التي نكره الذهاب إليها.
لكنه لغة تحتاج اقتحامها لتذهب به إلى عنان قمتك في السلام الداخلي.
حين تتوقف عن الرد هو الرد الأقوى، كأنه رسالة احترام، تجاهل، أو حتى انتصار.
عندما تشاهد ما لا يستطع الحديث سرده؛ شروق الشمس، صوت المطر، أو لحظة حلم يتحقق. حينها يصير تعبيرًا عن الامتنان.
عندما يعلو ضجيج الغير، يكون هو الصرخة الأقوى، هو الرفض دون استنزاف، والحكمة دون الدخول في معارك لا طائل لها.
يعتبروه الضعف، لكنه القوة التي نلجأ إليها حين تُخفق الكلمات. هو لغة الحكماء، وسلاح المحبين، وملاذ التائهين. وإن فك شيفرته يتطلب وعيًا بأن الحياة ليست احاديث وكلمات، بل لحظات صامتة تعلّمنا أن نسمع ما وراء الأصوات، ونرى ما وراء الظاهر.
من يتقن الصمت، يُتقن الحياة؛ لأن فيه تختبئ الحقيقة، وفيه تتجلّى المعاني.