سامية مصطفى عبدالفتاح.
“ينسج الشيطان خيوط البداية للبشر ويترك لهم النهاية فقد تعلموا”
كانت أول جملة تقع عليها عيني من المذكران، في البداية لم أكن أعلم ماهية تلك الأوراق..
ربما هي حفنة من أوراق بالية لا قيمة لها أو خرقة من شدة اصفرار لونها لكن ما إن لامستها حتى وجدتها مجموعة أوراق غير مرتبة وسرعان ما فهمت أنها مذكرات مبعثرة.
جذبني الفضول لأتفحصها واتطلع على ما فيها، فأخذت أقرأ وأول ما قرأت كانت تلك الجملة المتهكمة فقررت أن أُنهي قراءتها..
“عزيزي يا من تقرأ تلك الكلمات لا تصدر حكمك قبل أن تنهيها..
أنا فتاة لم يحالفها الحظ قط ولم تبتسم لها الدنيا، بل انهالت عليها بكل ما أوتيت من قوة، صدقني أنا لم أحب ما أنا عليه قط، لا أحب ذاك الوحش الرابض داخلي، لكنها الدنيا تُحتم علينا ارتداء الأزياء التي لا تلائمنا لكنها من وجهة نظرها أشد ملائمة لنا، دعني آخذك في نزهة داخل عالمي..
أحب أن أنزع الستار عن بؤسي القابع في قاع العالم، فتاة ترعرت وسط عائلة لا تعرف معنى الحرية، يحسبون كل شيء وكأنهم جنود حرب تعد عدتها من أجل حربٍ شرسة مع أعداء جاهمين
يخبروني أن العالم مكان موحش تربض فيه الخطايا فإذا خطت قدمي خارجًا يتلبسني القبح وأصبح فاسقة، عندما أعبر عن يأسي ورغبتي في استكشاف ما حولنا يمطراني بسيلٍ من المخاوف، أشعر بأني الأميرة المفقودة ذاتها وأعود لغرفتي مُحملة بالخيبات
دائمًا ما كانت أحلامي بسيطة ويالصعوبة تحقيقها، قضيت طفولتي أرتعب من العالم دون أسباب سوى نظرة الكبار الذين يعلمون أكثر وزرعوا داخلي الخوف والتوجس حتى بات التردد عنواني
وقضيت مراهقتي في الحرمان، أرضٍ جدباء جف ما حولها يأسًا منها، لم أكن أشبه من هن بعمري فقد كنت عجوزًا تتشرنق داخل كوخها المنعزل بالغابة البعيدة، حتى قررت ذات ليلة التسلل خفية لأستكشف العالم الخارجي وأعود سريعًا، خرجت ونعم ما رأيت “هكذا ظننت في البداية”
أدركت مع أول خطوة أني كنت سجينة.. سجينة الهشاشة والخوف والجبن فلو كان لدى عائلتي الشجاعة لأطلعاني على العالم بأكمله دون خبايا، رأيت حينها أنه من الحماقة العودة مرة أخرى إلى السجن، أيعقل أن يفر السجين ويعود ليلقي حتفه المعلوم مرة أخرى؟
كان لابُد من القرا والعيش، رأيت جميع الألوان كنت أتعجب منها في البداية وأرتجف لكن سرعان ما ألفتُها بمرور الوقت، أحببت الزُرقة والخُضرة وارتعبتُ من الأحمر فهو فور رأيته لا يأتي الخير غالبًا، وكذلك أحببت الحيادي كلما احترت في شيء لجأت إلى الرمادي، تلمست ألوانًا أُخرى غير الأسود والأبيض
حتى قابلت لونًا قمئًا إلى حدٍ ما “الحنطيّ” قادني الفضول حول فك شفرته وبئس ما يفعله الفضول بصاحبه، أخذ يتلاعب برأسي وكنت خير لعبة يحركها مثلما تحرك الريح الأوراق
انجرفت مع التيار فالجميع الآن يركضون لمواكبته فلما لا وأنا أبحث عن كل ما يُحرر المرء، قبلت أفكاره وأنغمتها داخل عقلي وتركت نفسي دون غربلة فقد تنفست الصعداء للتو فلن أتراجع
لم أترك مخلوقًا إلا وتركت بسمتي لديه، بكل الشر الكامن بأعماقي لعنت الجميع، أغمرتهم بالألحان العذبة لألبسهم ثوب الرثاء، كنت كالعنكبوت ينسج الخيوط ويشبك الفخاخ، تلذذت بأفعالي وتحمست للهو وصرت أرشد الحورائيات التائهين الحبيسات داخل بساتين عائلاتهن
الحياة أنشودة نتمايل على أنغامها ريثما تريد لكنها تمنحنا الفرصة لتغيير لحنها بما يتناسب معنا..
في النهاية أفقت، لا تتعجب يا عزيزي فـحتى إبليس كان في أصله طاووسًا، غدوت أحيَّا وداخلي شخصين أحدهم اعتلى عرش الفچور والآخر في طريقه نحو السِلم
تُرى من سينتصر؟
من المؤكد أن العائلة هي من تُشكل أبنائها، لكن كيف تُشكلهم؟ بالترغيب والترهيب أم بقبسٍ من الحرية المُمهدة؟
انتهيت من القراءة، أغمضت عيني وأخذت نفسًا عميقًا من شدة صعوبة ما قرأت، تلك الكلمات ما هي إلا قنبلة موقوتة.