✍️ يوحنا عزمي
فتيات خرجن من بيوتهن في الصباح الباكر ، يحملن أحلاماً صغيرة وقلوباً كبيرة ، توجهن إلى العمل ككل يوم … ولم يعد منهن أحد. تسعة عشر روحاً نُزعت من الدنيا في لحظة دامية ، ليس بفعل القدر فقط ، بل بفعل الإهمال ، بفعل الصمت ، بفعل التقاعس المتراكم عبر سنوات.
حادثة الطريق الإقليمي بالمنوفية لم تكن صدمة ، بل كانت حلقة جديدة من سلسلة طويلة من الجرائم المؤجلة ، جرائم ترتكبها الدولة بصمتها ، ببرود أجهزتها ، بانشغالها عن المواطن الحقيقي.
كم مرة كتب الصحفيون عن خطورة الطريق؟
كم مرة حذر السائقون من غياب الرقابة ، من الظلام الحالك ، من السيارات النقل التي تهيم على الأسفلت بلا رادع؟
كم مرة مات الناس هناك ولم يتحرك ساكن؟
الطريق الإقليمي ، الذي أنفقت عليه الدولة المليارات ، أصبح اليوم مقبرة جماعية مفتوحة على مدار الساعة ، لأن أحداً لم يهتم بوضع كاميرا ، أو تركيب رادار ، أو حتى صيانة حواجز الطريق.
من المسؤول عن دم هؤلاء؟ هل ننتظر كعادتنا تقريراً باهتاً من لجنة؟ هل نرضى من الدولة بتعويض مادي بارد لأهالٍ فقدوا بناتهم؟ هل تتحول المأساة إلى منشور فيسبوك ، ثم تُنسى كما نُسيت غيرها؟
هؤلاء البنات لم يكونوا “أرقاماً”، كانوا أحلاماً تمشي على الأرض. بنات خرجوا ليس لأنهن يُحببن الطريق ، بل لأن الفقر دفعهم ، والمسؤولية أجبرتهم ، والعجز سكن في بيوتهن. ذهبوا لكد العيش فعادوا في نعوش بيضاء.
ما حدث اليوم ليس حادثاً ، بل إعدام جماعي برخصة رسمية اسمها “السكوت”. والساكت عن الدم … شريك فيه. كل مسؤول لم يتحرك لإصلاح الطريق ، كل من جلس في مكتبه متذرعاً بالإجراءات ، كل من صمت خوفاً أو مصلحة … شركاء في هذه الجريمة.
نحن لا نطلب تعويضاً ، بل نحاسب على الدم. لا نريد بيانات تعزية ، نريد استقالات ، محاكمات ، ومحاسبة. كرامة الناس لا تُشترى بالمساعدة ، بل تُحفظ بالعدل.
سيظل الطريق الإقليمي شاهداً على جريمة اسمها : “استهتار الدولة بحياة أولادها”. وسيظل هذا الدم في رقبة كل مسؤول حتى تقوم الساعة.