زينب عبد الحفيظ محمد
مُتُّ ودُفن صدري الممتلئ بالحياة بدهاليز مكابرةٍ عََفِنة، من مكابرات الطبقة الاستقراطية. حُجبت عني همسات فرنسا، ونسمات هواء بوتييه العليل.
أرقدُ بسريرٍ لا يليق بجسدٍ مثيرٍ ورشيق. شراشفُ تخجلُ من رداءتها أن تُغطّي جمالي الآخاذ وأن تُلامس شعري الذهبي، الذي كان يزهو تحت شعاع الشمس المُشْفِق، في غرفةٍ مُظلمةٍ تغمرها الرطوبة ورائحة العَفَن. يُصاحبني فأرٌ يبدو عليه العجز.
مرتعدةً من خزي العائلة ألملمُ بقايا قلبي المنكسر. حالتي وكل شيء حولي يجعل سؤالاً واحدًا يطرق برأسي: أوَجَدتُ خليلةً للشيطان؟ ذنبي بأعين هؤلاء بغيض.
يخاف ذوو الطبقات المرموقة من صغائر الأفعال التي تمس أسماءهم المُزخرفة بحرفةٍ في ميادين الدول. خلف الثياب النظيفة الباهظة، بطائنُ مُلطخة بدماء الإنسانية، متسخة النفوس، ذوو الملامح الهادئة.
1849
مدينة بوتييه، فرنسا
طيور الأشجار تُغني فرحًا ببزوغ الصبح، تسلُّلت الشمس من خلف شواهق الجبال. يومٌ هادئ تتوالى دقائقُه الشتوية ببطء.
انحازت أشعة الشمس إلى غرفتي المطلةٍ على حديقة شاسعة لمنزلٍ باهٍ ذي هيئة معمارية أنيقة. تسارعت الأشعة نحو جسدي الصغيرٍ المتستِّر بنعومة الحرير الأبيض. تململت أطرافي بانزعاج، ورفعتُ يدي اليمنى لأُزيح شلالاتي المُذهبة التي تنسدل على وجهي.
وبعد صراعٍ بين النعاس وحرارة الشمس، ألقى النعاس أسلحته وفرَّ هاربًا. وأخيرًا قد استيقظت!
“بلانش”، جملةٌ رُمتْ من فم امرأةٍ عجوز ما هي إلا واحدة من إحدى خَدَم أمي المتجسسين.
دلفتْ إلى الغرفة بفطائر ساخنة وقهوة تراقصت أبخرتها بالأركان. اعتدلتُ ورسمتُ ابتسامة مُغتصبة.
لوكتُ طعامي دون شهية تحت نظراتها المُتفحصة، وعند آخر قضمة رفعتُ أصابعي علامة الانتهاء كي تَغُربَ عن وجهي؛ لأنعم أنا بهدوء الصباح. وقفتُ بشُرفتي بوجهٍ عابسٍ أحاول التلصص على المارّة الذين يُهرولون، كُلٌّ إلى وجهةٍ يعرفها، كأحجار متنقلة.
يومٌ مُطابق لأمس، ولقبل أمس، ولليوم الذي يليه.
رغم حُسن حالتي الاجتماعية والمالية، إلا أنني أشعر أنه تنقصني الحرية الفكرية. مُكمَّمة أنفاسي وأفكاري، نشأتُ بمنزل يستحقر ساكنوه من هو أقل منهم طبقةً. لقد رفضتُ بالأمس طلب زواجٍ مُنقّح من أحد أبناء عمومتي الأثرياء، أخشى أن تستمع لويز مونييه إلى حديثي الآن فتزجرني بعينيها الزرقاوين. أمي مُتحجِّرة كالنيزك المحترق، تعتبر عائلتنا، الكاثوليكية الشريفة، فوق كل شبهة، ولا يقترب منها سوى من هو على شاكلتها في المذهب والمال. لم تتوانَ بـلَكْم روحي دائمًا. تنفستُ بعُمق، وعندما كِدتُ أتراجع إلى غرفتي، وقفت مقلتاي على شيءٍ شاذٍ لم تعتاده، شيءٍ ملونٍ بمنتصف الرمادي.
رؤية واضحة رغم الضباب الناشز: رجل لا يُشبه أحدًا من الرجال الذين تفحصتُهم بعدد سنواتي القليل.
مهندم الثياب بطريقةٍ لافتة، مبتسمٌ يُلقي الإيماءات على كل شيء، حتى على ذاك القط الذي يلهو بجانب الطريق. انحنى وألقى له قطعةً من طعامه الذي يأكله بِنَهَم. ثِقَلُ رجلٍ بطاقةِ طفل. خفةُ ظِلٍ بصِرامةِ فارسٍ مغوارٍ على جواده.
بيده حقيبة سوداء لامعة. وبيده الأخرى شطائر ملفوفة، يعرف وجهته، لكنه يذهب إليها بإقبال وطاقة مفعمة. توسَّطتُ الشرفة وأخذتُ أتفحصه بـعين الطيور الجارحة التي تتنظر للانقضاض على فرائسها. وبين نظراته المتنقلة، ضربتني نظرةٌ منه عابرة، دقَّ قلبي على إثرها وتلجْلَجت أوتاري.
مضى، ومضت معه دقائق من الشغف والنشوة.
تعتاد الأنثى الجميلة على التفات الجميع لها. عرفتُ هذا منذ سنّ الصغر. تتيقن أنها إن وضعت قدمها بأرض، يضع رجال الأرض أشغالهم جانبًا ويقفون متفحصينها حتى تختفي عن ناظرهم. لكن عندما تلتفت الجميلة إلى رجل وتنظر داخل عينيه، ويُطالعها كما يُطالع الجميع دون توقف، هذا يُثير بداخلها شَبَق الفضول وتَحْتَجّ كبائر النفوس.
ظللتُ أستيقظ كل يوم في نفس هذا التوقيت حتى أشاهده. اعتادت الخادمة على نشاطي غير المعتاد، وأمسكت تُقَدِّرُ الشغف في حركاتي ولاحظت لمعة عيناي.
كل يوم أُراقبه بينما يمضي دون هزة رأس واحدة، فأغضب وأدُكّ الأرض وأدخل إلى غرفتي مُجددًا.
إلى أن ذات صباح كنتُ قد آمنتُ أنه لن يُوليني اهتمامًا كالمعتاد. غدوتُ أُراقب، أنا بعدما كنتُ أُراقَب من قبل أتربة الأرض. وبين خطواته البطيئة وقف، فتوقفت أنفاسي. تقدمتُ أكثر نحو سور الشرفة لأرى ماذا يدور. كان ينظر أمامه، وإذ فجأةً التفت نحوي!
شهقتُ بصدمة، وضحكتُ دون وعي كطفلة تلقت حَلوَتَها للتو.
ابتسم بدوره لي بهدوء، ابتسامة قضت على ما تبقى بعقلي من ركازة، وأحنى رأسه مُحَيِّيًا.
ماذا يوجد بهذا الرجل حتى أَهيمَ به دون أن أسمع صوته، أو أستشعر لمسته، ولا حتى أضُمَّهُ بين ذراعي؟
لم أشعر بنفسي إلا عندما تعثرتُ وأنا أركض على سُلَّم المنزل حافية القدمين. يَزْعُني صقيع الأجواء، غير عابئة بأمي أو بأحد من عائلتي رغم وجودهم في بهو المنزل. خرجتُ من المنزل ووجدته ما زال يقف وينظر نحو شُرفتي. لم يتكهن مدى خفّتي نحوه؛ فُوجِئَ بهرولتي إليه، أقبل بدوره نحوي بلهفة وأمسكني من كتفي عندما تخبَّطت أقدامي وأوشكت على السقوط، كأنني كنت أتسابق نحو الجنة هاربة من الجحيم المُعبَّق بالدخان المسموم.
“من أنت؟” سؤالٌ أطلقه لساني دون ردع.
طالعني بدهشة مغمورة بشيء خفي من الانجذاب. اعتدل في وقفته، وأجلى حلقه، ومدَّ يده ليُصافحني: “أنا المحامي فيكتور كالمايل…”
وانقطع صوته، وانقطعت معه أحلامي اليقظيّة، فنغزني صوت أمي الحاد كأسواط المواشي: “بلانش!”
استدرتُ بفزع لها، وتدفقت الدماء إلى وجهي، وعلت دقات قلبي الذي أصيب بالرعب. أمي امرأة لم يُوضع في قلبها ذرة من الشفقة واللين. صلبة، منذ الصغر أُلدَغ من حدة كلماتها. كانت أكثر غضبًا من عادتها، نُقِش على وجهها الشر. لأول مرة أرى الحقد يتطاير من عينيها، ولم تكن الأخيرة. وكأنني نقضت عهدًا بالدين وكفرت بعادتهم. نظرتُ نحو شرفتي فوجدتُ الخادمة تثقبني بنظرات شماتة. لم أره مجددًا بعد التفاتتي الأخيرة له، تهجَّم وجهه بحيرة عندما رأى نظراتي الممتلئة بالنداء المستغيث.
1901
شاخت أمي في نعيم الحياة، ودُفنتُ أنا في حضيضها. عُوقبتُ بالسجن المُتشدد بسبب مشاعر رأوا أنها انجرفت إلى مجرى غير لائق لتروي جلودهم. خمسة وعشرون عامًا أتلَوَّى بتنافر، كحيةٍ سُلِبَ منها سُمُّها. لم أجد مخرجًا، ولم أجد سببًا، ولم أجدني مُجددًا.
انتهت فترات عمري بسجنٍ منعزل عن العالم أجمع. لم يُشاطرني وحدتي سوى فأرٍ شاخَ معي، يأكل بقايا طعامي الباقي من طعامهم. لم يرق لحالي أحد، ولم يُناظرني أحد بعين الرحمة. دُفنتُ بتهمة العشق البريء.
لكن ذات ليلة، سمعتُ صوت أقدام تتقدم نحو غرفتي. لم تكن قدم أمي المجرورة ببطء، بل كانت جحافل مسرعة. احتضنني الخوف بتَمَلُّك. شعرتُ أن من يتقدم نحوي ما هو إلا الموت. سأرحل دون أن أعرف مصير ذاك الذي حُبستُ من أجله، فيكتور كالمايل. تُرى أين هو الآن؟ هل تزوَّج؟ هل أنجب؟ فلربما شاخ بحضن امرأة أخرى، جسدها مثير أكثر من جسدي الذي بَرَزت منه العظام.
فُتح الباب، وسطعت الغرفة المظلمة بالأضواء المزعجة. انكمشت ملامحي وأغمضت عينيَّ حتى أتفادى وهج الإضاءة. وفتحتها رويدًا رويدًا، فوجدتُ عددًا لا بأس به من الرجال المسلحين ينظرون إليَّ بأعين متسعة وأفواه تصدُر أصواتًا بخوف. طُرِح سؤالي الذي كنتُ أُلقيه على نفسي منذ هذه السنوات، من فم قائدهم الشاب، لأمي، تلك المرأة التي نال منها الكبر ولم يتدنَّ كبرياؤها ولم يَلِن قلبها:
“هل صافحتِ الشيطان بركنكم المقدس يا امرأة؟”
ثم صمت يطالعني مجددًا بعينين دامعتين، وأطلق سبته التي عجز لساني عن نطقها.
لم تَر الأم ردَّ هذا القائد حتى النهاية، فقد انهار كبرياؤها الحديدي تحت وطأة الفضيحة المدوية. بعد خمسة عشر يومًا فقط من العثور عليّ، وبعد أن لاحقتني لعنة سنوات القمع الطويلة، سقطت لويز مونييه صريعةً بنوبة قلبية حادة. رحلت دون عقاب من القضاء، رحلت دون أن تجيب على أسئلتي، بينما ظللت أرقد في صمت، هيكلاً واهنًا سُلِبَ منه الجمال، لكنه استعاد الحرية.




