بقلم/ انتصار عمار
ذات يومٍ في نهار صيفٍ حار، احتضنت فيه أشعة الشمس الحارقة رؤوس المارة بالطريق،
وأخذ كل منهم يفر هاربًا من لهيبها، وكأنه يفر من ظله.
باص تلو آخر، والجميع ينتظر، لكن لا أحد يستطيع أن ينهض ويركب، فجميع الباصات تأتي ممتلئة بالركاب، وكأنما سكان مصر جميعا استقلوا أتوبيسًا واحدًا.
الناس يُلهب أجسامهم سياط الشمس، و يأكل صبرهم ذلك التزاحم الرهيب، بمحطة الأتوبيس، وتدافعهم نحو باب كل باص يأتي.
وكأنهم يتسارعون، لنيل الجائزة الكبرى من شركات الطيران، ولكنهم معذورون حقًا، فمنهم من هو مرتبط بموعد هام، ومنهم من لديه عمل، ومنهم من هو طالب.
ومنهم، ومنهم، …وهذا حالنا جميعًا، نحيا جميعًا في صراعٍ
مع الزمن، مع الوقت، مع الحياة، بل ومع أنفسنا.
وبدأ عدد المتزاحمين يقل شيئًا، فشيئًا، حيث يمر الباص، فيركب جمعٌ قليل، ويتزاحمون بالداخل، وينتظر البعض الآخر على الرصيف.
ينتظرون بارقة الأمل التي
تمر، لتخفف من وطأة آثار
صيفٍ، ينتقم، وأخيرًا جاء الباص
“٦ ج” الذي يحمل بشريات ربيعٍ يضحك.
وكان متجهًا إلى الجيزة، وكالعادة انقض الجميع عليه، وكأنهم يستقبلون أمهم العائدة من الحجاز، ومعها حقائب الهدايا.
وركب الناس، وكان من بينهم، شاب وسيم، أنيق، تزيد وسامته
سمرته، التي تشبه نهر النيل، وعيناه اللامعتان، كبريق فضة تسبح في ماء البحر.
وعطر يروي حر الركاب، ويبعث في نفوسهم إليچنس الحياة، وينسيهم عناء الركض وراء الحافلات.
كان الأتوبيس مليئًا بالركاب، لا يوجد به مكان خال للأنفاس، حتى الهواء يخاف يمر عبر نوافذه، فيموت اختناقًا.
البعض جالس على الكراسي، والبعض الآخر، تطول رأسه سقف الباص، والبعض يقطر عرقه على عتبات الزمن.
وكان من بين الركاب، وجه جميل، تبارك الرحمن، ملامح رقيقة، عينان سوادوتين، كليلٍ
يغوص في بحر النغم، ووجه أبيض، يختلط به حُمرة الخد.
كلوحةٍ فنية، لرسام، رسمها وهرب، وطبع الحسن يرتسم بخديها، كشامة، كلما ابتسمت، جلست وحافة شفتيها.
ونظرًا لتكدس سكان مدينة القاهرة كلهم في مكان واحد، وكأنهم معزلين، لهذا الباص، كان جمال هذه الفتاة، مختبئًا خلف ظلال الزحمة.
فما كان ظاهرًا منها سوى وجهها الآخاذ فقط، ولنحمد الله على لطفه بنا، وفي ثنايا تزاحم الركاب، ولدت قصة قصيرة
من رحم المعاناة.
فلقد كان هذا الشاب الوسيم، يترقب هذه الفتاة، ويرمقها بنظراته الساحرة، وكأن حديثًا ما يدور بين الأعين.
كانت عيناه تعبر عن شيء، وكأنه يدير حوارًا معها، وكأنه يتلهف لسماع صوتها، وينتظر صوت صمتها.
لدرجة أن الركاب تناسوا صراخ أقدامهم من عناء الوقوف، ولم يعد يشعروا بطول فترة السير، التي يقطعها الباص.
وإنما كانت تسليتهم، نظرات الشاب الوسيم، التي تفترش أرجاء الباص، وقصة الهيام التي
تُقام على مسرح الباص.
لدرجة أن الفتاة انتبهت لنظراته، كما عانق أذنيها أزيز همسات الركاب، وبدأ الباص يخلو شيئًا، فشيئًا من الركاب.
وفي اللحظة التي بدأ فيها الزحام يقل، و أصبح هناك متنفس بالباص، ظهرت الفتاة، بشكل أوضح، وكانت القنبلة الموقوتة.
عندما تحدثت الفتاة إلى السائق، وقالت له: معك الدقي يا عمو
عمو! ساد الصمت الثقيل صدور الركاب، و توقفت أنفاسهم، وبدت الملامح في غرابةٍ مما يحدث.
فقد تفاجىء الجميع بصوت الفتاة، وكأنه صوت رعد، أطاح بمسامعهم، فلقد كان صوتها حاد، غليظ، كصوت رجلٍ ينتحل حنجرة ماسورة مياة.
لكن يبدو أن القدر أراد أن يرسم مسرحية هزلية، فلم يكتف بصوت الفتاة فقط، بل امتد ليشمل الفتاة كلها.
وهذا عندما قامت الفتاة، تستعد لتنزل في محطتها، وشعر الركاب بهزة أرضية، درجتها ٢ ريختر، أفقدت كل واحد مكانه.
فقد كانت الفتاة سمينة لدرجة كبيرة جدًا، وحينما قامت من مكانها، ودنت من الباب، وأبصرتها عين الشاب الوسيم.
كاد لا يصدق نفسه، ويتساءل في غرابة قاتلة: أحقًا ما أرى؟
ونط من هول الصدمة من الأتوبيس وهو سائر، ولا نعلم حتى الآن، هل لهذا الزلزال توابع أخرى؟ أم لا؟




