زينب عبد الحفيظ محمد
يُسْكَبُ النبيذُ بيدِ امرأةٍ فيغيبُ عقلُ رجلٍ يُعرَف بالثبات، وشقَّتْ عنه ثوبَهُ المقدَّسَ بخصلةٍ من شعرها الأسود، وأزاحت المستحيل برقّة صوتها المُلقي كلماتٍ شديدةَ الحدَّة. وحين سَكِرَ، رفعَ يده ليحثَّها بأمرٍ على التقرب له، ولكنها تَرنَّحَت برأسها مُعتَرِضَة.
التفتَ الرفضُ إليها بجَزَعٍ، وكأنّ الرفضَ نفسَه يرفضُ احتجاجَها أمام النِّعَم التي فُرشت أمامها ببذخٍ.
بفستانٍ أنيقٍ ولهجةٍ مُنمَّقةٍ وملامحَ وجهٍ هادئةٍ، أزاحت “آن بولين” شهوةَ ملكٍ عاشقٍ للنساء عنها، وقالت بشفاهٍ مبتسمة: “عذرًا… إمّا زوجة، أو لا شيء.”
هنري الثامن، ملك إنجلترا، رفضتْه وصيفةُ، الدَّهْشة، دُهشتْ من تناقض الموقف، لكنه لم يغضب… بل استشاط جنونًا. فهو لم يعتدْ يومًا على الرفض.
وهمُ الذكورة يُلقي بظلاله على عقول القادة، فيُخيَّل إليهم أنهم من يملكون صُلبَ القرارات. يحسبون أنهم من يُوقِعون بنسائهم الفرائس، ويستحوذون على كلِّ ما فيها بقوةٍ وغَلَبة. ولا يدرون أنّ المرأة هي من تُسدل ستائر الجذب، وتجعلهم يظنّون أنهم مَن استدرجها إلى وجودهم، وأنّها كانت رافضة لهم في الأصل.
كان رفضُ “آن” شرارةً أضرمت اللهب في قلب “هنري”، وصبَّتْ عشقها في ثناياه فأغرم بها حدَّ الصبابة. واعتلى الوُجومُ وجهَ امرأته (الأولى) ولم يُحرِّكْ ساكنًا من رفضها، أمسك بقرار زواجه منها، وقبض على أوروبا من تلابيبها، وهزّها هزّةً عنيفةً تصدَّع على أثرها الهدوءُ الدينيّ والسياسيّ.
رفضت الكنيسةُ الكاثوليكية أن تمنحه الطلاق من زوجته، لكن لا شيء يوقف رجلًا باغيًا وجهةً. لا يوقف الرجالَ شيءٌ إن أرادوا إمساكَ يدِ امرأةٍ يبتغونها، وإن تصدَّت لهم الدنيا كلّها، فكيف برجلٍ يعتلي رأسَه تاجٌ مُرصَّعٌ بالسلطة؟
ثار هنري على كلِّ من حاول تقييده، وكسر بتاجِه قيودَ روما، وأعلن انفصالَه عن الكنيسةِ البابوية، مؤسّسًا كنيسةَ إنجلترا المستقلّة. جسدٌ ليّنٌ متمايل، وشَعرٌ أسودُ حالك، ورقّةٌ أنثويةٌ طاغية، كسرت حدودَ الحبّ، فلم تكن “آن بولين” تريد أن تُسجَّل في التاريخ كعشيقةٍ مَلكيّة، بل كصاعقةٍ قلبت وجهَ الدِّيانة والسياسة معًا.
اشتدَّت المماطلاتُ، والشدُّ العنيفُ على رفض الكنيسة، لكنه دكَّ الأرض بحزمٍ: أن لا مفاوضة في قراره. شقَّت آن لقب ملكة إنجلترا بأصابع نظيفة، ووضعت على شعرها المُموَّج لقب “المرأة الثانية”، وتلبَّست المَلكيّة بتَأَنٍّ خام.
لكن صدى رعدِ آن الذي أنار سماء إنجلترا سرعان ما ابتلعه الفراغ، بعدما أنجبت له ابنة، ولم يمنحها رحمها الوريث. أيقن أن المرأة التي بنت له كنيسة، ورَمَتْ حجر إغرائها في بركة بلاده مما أدى إلى إيقاظ شياطين الفتن، لم تَقوَ على جلب وريث ذكر. والطباعُ المتخفيةُ لدَناءة الرجال نفضت عن نفسها وأخذت تتوالى تَباعًا، واستحال العشقُ إلى فتور، وأخذت قشور القسوة تُبنى رُويدًا.
استغل الشيطانُ رائحة النفور وتدفقَ بالأرجاء، وعلت همهماتُه الخبيثةُ بأذان الرعاة، وأُحيكت مؤامرات مُحكَمة لها مما أدى إلى إسقاطها بعينه، عينه التي كانت تفيض عشقًا بها أصبحت خواءً. يا لطباع الرجال المنحطّة! الشهوة إن شُبِعَت شَبِعَ الفم مما كان متلهفًا لتذوقه. صمتت القاعات التي كانت تعجُّ بأصوات الحب. قرر أن يُنهي وجود من فُتِنَ بها، وبعد انفصال البلاد قرر فصل رأسها عنها بتُهَمٍ ضعيفة.
عند صعودها إلى منصة الإعدام، أفاضت آن بولين بالقول الناعم كطبيعتها، وقالت أمام الحشود بابتسامة أخيرة: “زوجي لم أرَ منه إلا خيرًا… وليسـامح الرب من ظلموني.” أرادت أن تبقى في أعين الجميع آن بولين التي لم تهتز لقرارات السلطة، ورغم قوتها الناعمة، لم تَقوَ على إخضاع قلب ملك إلى الأبد، رجل اعتاد على التجبُّر والقيادة طوال حياته.
صَدَّق بها، وبكلمة واحدة منه أنهى وجودها وطمر جسدها المُثير بتراب دولة قلبت موازينها بجملة واحدة، مُخلفة وراءها مملكة بدَّلت ثوبها المقدس إلى الأبد، وفتاةً غدت فيما بعد أقوى ملكة عرفها التاريخ. لم يكن يعرف أن ابنته إليزابيث تصدت لأعتى الرجال، وأن الوريث الذكر الذي كان يهلل له كان سيغرق الدولة بالحروب الأهلية ويُضعِف هيبة الحكم.




