ابداعات

حفيد الفايكنج

زينب عبد الحفيظ محمد

يؤخذ الشر من رواكد السلام، شعب طُمِسَت قوته بأعقاب البحار، وحين تتابعت القرون نفضت البحار ملوحتها وابتلعت بقايا العزة. وهلّ الفقر على اليابسة، لكن هل الفقر هو من وَلَدَ الشر؟ أم أن الشر مُتَرَعْرِعٌ بداخلهم ولم يجد له منفذاً للخروج؟ إن أمسكت السلطة بقبضة رجال أُرْغِمُوا سنواتٍ على الخضوع، رجال في صدورهم الكبرياء صارخ، فحينئذ هنيئاً للراعية بما سيأتي من انحدار حتمي وعذاب سرمدي.

 نهاية اليوم الشاق في المنجم

احتد الشفق الأحمر الغارب، كأطراف فستان ناري تتباطأ مرتديه وتتغنَّج في خطواتها. انعكست ذهبيته على جسد لَفَحَتْهُ حرارة الشمس طويلاً، عمل مستمر دون راحة يضرب الرجل هنا بصرخة مندثرة، بهمّة خائبة. أيادٍ مَلَّت الوفاء الأعمى، وأعطت الجسد قيادته لعقل أصابه النفور.

حالة لم تنقضِ أيامها: عمل مكثف في منجم النحاس، وأسواط لا تحترم الأجساد المنهكة، تلسع تارة الهواء وتارة تهبط على الجلود المُحْتَرِقَة.

زفر ماركن بغضب يائس، متمتماً بالسب العنيف للجنود والعمل، بل ولعن الشمس بأشعتها التي وَرَّمَتْ جسده. “ألم ينتهِ اليوم؟” ضرب وجه النفق بحدة، وعلت صرخة غضبه: “ألم تنتهِ حياتي؟”

صاح صوت غليظ لرجل مرتدياً ملابس تُعلِيهِ رتبة عالية من رتب الجيش، قائلاً: “كفى اليوم! لقد ذهبت الشمس!” وتابع وهو يلكز حصانه الأسود: “فِرُّوا وعودوا غداً. قبل أن تتوسط الشمس برقعها السماوي، أريد أن أرى سربكم مصطفاً أمامي.” ثم غادر، مُخلفاً وراءه جبالاً من الغبار الكثيف.

كزَّ ماركن على أنيابه بعصبية، وألقى معوله جانباً، ثم غادر بقعة الموت، كما يسميها الكثير.

 العودة إلى أزقة النرويج

يجرُّ جسده كأنه مُثقَل بالأوزان، إلى أن لامس أرضه الصغيرة، بعض الأمتار القليلة التي يمتلكها من هذا العالم الواسع. ومن بين أطنان من النعم الموزعة في المدينة، امتلك قِلةً من بعض ثمرات التين وإبريقاً ممتلئاً بالماء الفاتر.

دخل غرفته بعدما ألقى السلام على فراغ المنزل. هرع إليه كلب بني اللون كان نائماً بجانب سريره بفرحة جعلته يبتسم بصفاء، وكأن هذا الحيوان الأليف هو كنزه الوحيد الذي اغتنمه من ثراء الأرض.

جلس ماركن على أطراف السرير ونظر إلى كلبه، وقال: “ما ذنبك أيها الضال أن تنشأ هنا بهذه المدينة؟ وما الذي يُرغِمُك على المكوث؟ لِمَ لا تجول بقاع الأرض بحرية؟ فهنا الحرية محرَّمة، أنت مُكَبَّلٌ معي بهذا الزمان والمكان.” ثم تنهد بحنق: “مرحباً بك بأزقة النرويج.”

ألقى جملته في مُتَّسَع الغرفة الضيق، مخاطباً كلبه بمزاح. فهرع إليه كلبه بحفاوة، وأخذ يلحس قدميه ووجهه، إلى أن جعله يتمدد بضحكات عالية، ناسياً تعب جسده وغليان عقله وحزن قلبه. وأخذ يلهو معه إلى أن تناسى الوقت.

 الطرقات والشرر (زيارة إيفا)

طرقات خفية قطعت وصلته المفضلة بالحياة. توقف عن الضحك قليلاً ونظر إلى كلبه بشك وقال: “تُرى من الذي سيزورنا يا بوب؟” نظر بوب نحو مصدر الطرقات، وعاود النظر إليه. تنهد ماركن بيأس: “لقد تدهورت حالتي، وها أنا أنتظر إجابة من هذا الأليف!”

وقف ونظر إليه وقال بملل: “وهل يوجد غيرها يا صاح؟ خلف هذا الباب الناقر لا تقف إلا إيفا.”

فتح الباب بتباطؤ أثار الريبة. كانت فتاة ذات بشرة بيضاء شاحبة، ووجه مستدير وعينين سوداوين واسعتين، ترتدي خصلات شعرها بوشاح وردي، ممسكة بيدها صينية صغيرة تتصاعد منها الأبخرة شهية الرائحة.

ابتسمت بحماس خفي عندما رأته وقالت بصوت مهتز: “مرحباً ماركن.”

بادلها الابتسامة بأخرى أقل حماساً وقال: “لماذا لا تُصغي إلى حديثي يا إيفا؟” تغيرت معالم وجهها إلى الحرج تدريجياً وقالت: “لن أصغي إليك في هذا يا ماركن. وهيا، خذ هذا الطعام، لأن الجنود يُنقِّبون عن شيء يسليهم، وإن رأوني هنا سأكون أنا هذه التسلية.”

زفر بحدة وقال: “إن أتيتِ بالطعام مرة أخرى لن أفتح لكِ هذا الباب.”

احتدمت نظراتها وقالت: “اذهب وأخبر أمي بهذا يا رجل! ما شأني أنا؟ إنها خالتك وتشفق على وحدتك، وتعرف مدى إجهادك وتعبك في هذا العمل الشاق. الأكل للجلد!” وأضافت بنبرة متعصبة: “متى ستتخذنا عائلة لك يا هذا؟”

قلَّب ماركن عينيه بملل وقال: “تُجيدين طريقة بَخْسَة للإقناع يا إيفا. ما هذه الدراما؟” زمَّت إيفا شفتيها وقالت: “هيا، التقط هذا الطعام. يدي آلمتاني.”

أمسك منها ماركن الطعام ودلف به الغرفة، بينما كانت معدته تتراقص فرحاً فقد تقلصت جوعاً طوال اليوم، إذ لم يتناول سوى وجبة ضئيلة في المنجم. دلفت إيفا خلفه بحماس وابتسامة متسعة.

وضع ماركن الطعام على منضدة خشبية بركن الغرفة، وجلس يتناوله بصمت، مراقباً حركاتها الطفولية وهي تلاعب بوب بسعادة. ثم شرد ذهنه في حالته. رجل تعدى الثامنة والعشرين من عمره، لم يفعل شيئاً يُذكر سوى رعاية هذا الكلب. يعمل في منجم النحاس بين الأَوَانِ، تنقضي سنوات عمره دون أن يقع في الحب، أو يجني المال، أو يتزوج. يشعر بأنه عجوز فاتته الحياة.

 صراع الأحلام والهوية

ظل ماركن شارداً ينظر إلى الفراغ، ولم ينتبه لإيفا التي كانت قد تركت بوب واتجهت لتجلس مقابله، تتأمل صمته الثائر بصمت أكثر ضجيجاً. تتأمل عينيه وفمه الذي يلوك الطعام ببطء، ورقبته التي علق بها وسخ أعباء اليوم، وجلده المتهالك، ويديه المرتعشتين.

وقعت إيفا في شباك حبه منذ الصغر… (وصف إيفا لحبها وطموح ماركن القديم) …لكنه انطفأ شيئاً فشيئاً عندما أدرك حقيقة الطبقية التي ولدوا بها. الفقر مرضهم الطفولي، نشأ معهم ونشأوا به، يظهر في كل شيء بهم… (وصف الفقر في حياتهم).

ظل يحاول قتل هذا الفقر كثيرًا، لكنه فشل مراراً وتكراراً، إلى أن مات والداه ووقف في الدنيا دون درع. لديه سيف لا يقطع شيئاً من أحلامه، وغرفة فقيرة، وكلب… (وصف حالة ماركن الداخلية)… أحلام مختبئة، لكنها تتنفس بحدة داخله، حية، تضرب بعقله في بعض الأوقات حتى تكاد أن ترمي به إلى حواف الجنون، لكنه يرتكز ويعود لثباته. لا شيء يمهد لامتلاك شيء منها، لا حالته، ولا حالة الدولة المحتلة، المُقادة من قبل الدنمارك.

 الفخّ المزدوج (فتاة النافذة)

فجأة فزع الجسدان اللذان طافا بمرارة الأفكار على صوت بوب الغاضب وهو ينبح بعنف عند نافذة الغرفة. كان غاضباً وحذراً ينظر إلى ستائر النافذة الرثّة. هرع ماركن إلى ما يثير قلقه، ونظر عن بعد للنافذة، ثم نظر إلى إيفا بريبة وأشار لها أن تبقى كما هي ولا تقترب.

ابتلعت إيفا لُعابها بخوف حقيقي ونظرت بترقب للستائر التي تتمايل بفعل الهواء. بوب لم يكفّ عن النباح، بل استعد للهجوم. كانت إيفا تخشى أن يكون أحد الجنود السكارى الذي يجولون بالطرقات بعد شرب النبيذ المُسكر في الحانات… (وصف خشية إيفا من جنون الجنود وتصرف ماركن).

اقترب ماركن من النافذة ممسكاً بسلاحه المُستتر بغِمْدِه، وقام بفتحها تدريجياً، مما زاد من توتر إيفا. فغزا الغرفة صوت أنثوي باكٍ.

وقفت إيفا واقتربت منه بفضول بينما خفف ماركن من قبضته وكشّر ملامحه. نظر إلى إيفا بعدم فهم، فبادلته النظرة بأخرى مرتبكة. دلف ماركن إلى الشرفة التي تطل على الشارع الخلفي—شرفته القريبة من الأرض—فوجد فتاة تنظر إليه بحذر مُغترّ، خائفة لكنها لا تحني رأسها. ترتدي ملابس باهظة الأقمشة: بنطال حريري وسترة قطنية، وشعرها بني يبدو عليه الاهتمام رغم أنه مُشَعَّثٌ قليلاً.

قالت إيفا باندفاع من خلف ماركن الذي بُهِتَ برؤيتها: “من أنتِ؟”

لم تلتفت الفتاة إليها، بل تمركزت مُقْلَتاها على ذاك الشارد بها. لم تُفسر نظراته ولا تستطع أن تحدد معالمه، فقط صمت مُريب متفحص. أعادت إيفا السؤال، فنظرت الفتاة خلفها نحو الشارع، فشهقت بخفّة عندما وجدت مصابيح سيارة تقطع الظلام وتُهروِل وراءها، وعادت تنظر إلى ماركن مجدداً وقالت بنبرة راجية: “هل تساعدني أرجوك؟ إن وجدني هذا الحثالة سأنتهي، وتنتهي مسيرة أبي برمتها.”

نظر ماركن نحو غبار السيارة المتصاعد واحتكاك عجلاتها، وعاد النظر إليها ثم تمتم بغضب مكتوم قائلاً: “أرى أن الفقر لم يكتفِ فبعث لنا المصائب لتلازمنا.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!