ابداعاتمقالات

جحيم العقل

أحمد المقدم

 

تحدث عنه الكثير ممن أفنوا حياتهم في الغوص فيه، حتى إذا ما حسبوا أنهم بلغوا أعماقه وجدوا أنفسهم حيث تحدثوا عنه.

 

 فها هي سايمون دي بوفوار تعرفه قائلة: “عندما يتقيأ الإنسان قلبه”، أما إيميل سيوران فقد قال: “إنه كارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي”، ثم أكمل قائلًا: “[إنه] منفى والجهل وطن”.

أما دوستويفسكي فقد تحدث عن هول الوقوع في فخاخه فقال: “إن الإفراط في امتلاكه ما هو إلا علة… علة حقيقية تامة”.

 

نأتي إلى الحياة فلا نبلغ منها شيئًا سوى بالعقل. 

 

ذلك العضو الذي يأخذنا بكامل إرادتنا نحو آفاقه، فلا نملك من أمر إرادتنا شيئًا، ونحن ندرك أنه لا يعود من تخومه أحد. وإذ نحن في ملكوته المحدود كأننا قد أقمنا فوق تلة لا يملك أحدنا فوقها لنا مكانًا سوى موضع قدميه.

 

إننا نفكر، وتأخذنا أفكارنا نحو المستقبل، حتى إذا أدركناه فإذا هو حاضر يدفع عقولنا إلى التفكير في ما هو آت، وهكذا تمر الأيام، وإذا نحن نتراءى أمام أعيننا لحظات نتذكر فيها وقت أن كان هذا وذاك يومًا ما مستقبلًا، وقد أحاله الزمن إلى حاضر، ثم لا يلبث أن يصير ماضيًا. 

 

وتزداد تلك الطيات بعضها فوق بعض، ونحن معها ندخل مستسلمين في نفقه، لا نملك لأرواحنا رجوعًا ولا نرغب سوى في المضي قدمًا نحو ما أعيا سالفينا ممن حذرونا.

 

إننا حتى نصل إلى درجة منه أننا إذ ننظر إلى نذيرهم، وقد قدموه لنا في كتبهم ونواميسهم، نعلم أننا قد أصابنا ما أصابهم من هوله ومن جنانه الجحيمية.

 

إننا أعداء ما نجهل، فمن جَبُنَ عن جهله واستسلم لعداوته في مهادنة ما يجهل فقد ظل يتقلب في نعيم جهله، أما من تدرع بفضوله، واستل عقله، وتقيأ قلبه، وصار إلى المجهول حتى يصرعه فإذا هو مألوف، وبينما تتوالى المعارك ويصير المجهول مألوفًا، إذا به قد ترك قلبه بعيدًا، وقد تركت الأفكار في عقله ندوبًا لا تنمحي.

 

إننا ندفع من لحظاتنا ثمنًا كي نبلغه، فإذا بنا مكبلين برغبتنا فيه، تسوقنا نحو هاويته بكامل إرادتنا. 

 

ورغم آلامنا، إلا أننا لا نملك من ضعفنا وافتقارنا إلى الندم شيئًا. 

 

إن أرواحنا تئن، بينما لا نرغب سوى بالغوص أكثر في تلابيبه. 

 

إنه المخدر الذي يبقينا على يقظة تامة وفهم لواقعنا واستبصار بمستقبلنا وتذكر لماضينا، إنه بوصلة تأخذنا في رحلتنا، فنرى خلفنا وتحت أرجلنا وأمام ناظرينا.

 

يُعرض علينا، فمنا من لا يأبه ولا يرغب سوى أن يحيا في بوتقته، في نطاق محدود، لا يعلم عن خلفه شيئًا، فيكتفي بما يراه في هذا الحيز الخانق. 

 

ومنا من قد أقسم أن يحيى بعزيمة القرنين، فلا يضع حدًا لرغبته في معرفة المجهول، فيبلغ الشرق تارة والغرب أخرى، بل كموسى يشق عباب البحر في الفلك على عجلة من أمره، يصحب الخضر الذي يفسر حيرة موسى.

 

 فإذا علم موسى، انتقل من ضيق الجهل إلى رحابة المعرفة وصرع المجهول.

 

إنه الجحيم الذي تحرقنا نيرانه، بينما نتدفأ بها في برودة صحاري الجهل القفار. 

 

إنه الرداء الشائك الذي نتدثر به من برد الضحالة الفكرية، فإذا هو يدمي أرواحنا المتهالكة من هوله.

 

يا من تطالع تلك السطور، ألم تتعظ بعد؟ أرى فيك فضولًا نحو معرفة ما يدور حوله ذلك الحديث العميق. 

 

ألا زلت ترغب في المعرفة حقًا؟ ألم تعرف بعد ما الذي يجعلك تتقيأ قلبك؟ ألم تعرف بعد ما هي الكارثة المهولة ومنفانا الحقيقي؟ ألم تعرف بعد ما هي علة العلات؟

 

إن تلك الآفة التي تجعلك مهرولًا بين السطور. 

 

إن فيك قبسًا من هؤلاء الذين أدركوا كنهه وقد رحلوا بعد أن حذروك، فإن بلغك كتابهم لك فقد أصبحت مثلهم، وقد أصابك ما أصابهم، فلو أنك تجنبتهم لما أصابتك العلة، ولا وجدت نفسك في منفاهم. 

 

إنك في طريق لا رجوع فيه، ليس هناك مجال سوى للمضي قدمًا، دون الخنوع لدَعَّة وخمول الجهل… مرحبًا بك في جحيم “الوعي”.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!