يوحنا عزمي
صنعت الحرب الأوكرانية سلسلة تفاعلات لم تنته حتى الأن ما بين الآثار المباشرة للعمليات العسكرية في أوروبا الشرقية او سلسلة العقوبات الغربية على روسيا ، وما تلاها من موجة تضخم كبري وخلل في الأسواق المالية والبورصة حول العالم ، وصولاً إلى أزمة في سلاسل إمداد الطاقة والطعام وعموم التجارة الدولية.
ولكن هذا المشهد الذى يبدو في بعض الأحيان ارتجالي وعشوائي وفى أحيان اخري شديد الترتيب ، تقف شبكة من المستفيدين والمنتفعين، وحسابات سياسية معقدة جرت في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا وروسيا كلاً على حده ، وفى خطابه الأول عقب اندلاع الحرب ، اوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن ان بلاده نسقت مع ثلثي دول العالم منذ ستة اشهر على الأقل من اجل سن عقوبات منتظرة على روسيا حال اندلاع الحرب.
ان شن حرب الإلغاء او حرب الغاء روسيا يعد بند رئيسي في أجندة إدارة جو بايدن منذ ان تسلمت السلطة في يناير 2021 ، وعادة ما تقوم الإدارات الامريكية الجديدة باتخاذ فترة انتقالية ما بين ستة اشهر الى عام لترتيب المشهد امريكياً وفى بعض الأحيان دولياً من اجل تدشين الحقبة الجديدة.
وفى حالة إدارة جو بايدن ، فأن الولايات المتحدة سعدت إلى تهدئة الشرق الأوسط ونقل قواعد اللعبة الى أوروبا الشرقية وآسيا الوسطي لمناوئة روسيا ، والشرق الأقصى لمناوئة الصين وشحن أوكرانيا بكافة وسائل الاستفزاز التي تجعل التدخل العسكري الروسي حتمياً.
وجرت اجتماعات سرية بالغة التكثيف في أمريكا وأوروبا وكندا وأستراليا من اجل بحث طبيعة العقوبات الغربية المنتظرة من أجل محو روسيا من المسرح الدولي، حيث المطلوب ليس هزيمة عسكرية تقليدية او مجرد الدفاع عن أوكرانيا ، ولكن الغاء تأثير روسيا بشكل حاسم ونهائي في التاريخ الإنساني.
ولعل هذا ما يفسر العقوبات التي طالت الأدب والفن الروسي والرياضة واللغة الروسية، وحتى فصائل الحيوانات الروسية إلى جانب مصادرة اغلب الممتلكات الروسية خارج جمهورية روسيا الاتحادية ، ولم تكن المصادرة جارية بحق الأصول التي تملكها الدولة الروسية فحسب ، ولكن حتى الأصول التي يملكها القطاع الخاص او الافراد الروسيين ، جرى تجميدها ثم التضيق عليها ومصادرتها تحت الإدعاء انها تنتمي الى رجال أعمال مقربين من الكرملين.
ان عراقة الأدب الروسي ، والتنوير الروسي عموماً، مثل دائماُ عقدة للأمريكان في سنوات الحرب الباردة ، كذلك تأثير الرياضة الروسية والفن الروسي على القارة الأوروبية، وهكذا فان الغرب حينما اجتمع لمعاقبة روسيا، قرر اولاً حسم الحرب الثقافية والفكرية مع روسيا، عبر الغاء التواجد الروسي في تلك المحافل ، حتى لو أدى ذلك الى تعرية ادعاء الحداثة الغربية ، التي طالما ادعت الفصل بين السياسة والرياضة ، وبين السياسة والفن ، وبين السياسة والثقافة.
ولكن على ضوء العقوبات الغربية على الفن والرياضة والأدب الروسي، يتضح ان كل هذا مسيس تماماً ، ويتم استخدامه وتوظيفه سياسياً ، وان الوصول إلى منصات الجوائز العالمية الصحفية والأدبية والثقافية، ومهرجانات كان وبرلين وفينيسيا والاوسكار وهوليود وجولدن جلوب ، هي دروب سياسية بحتة ولها أجندات سياسية بحتة ، والأمر بعيد كل البعد عن قيمة هذا الإبداع او فكرة أنه يليق بمصطلح الإبداع من أساسه.
البند الثاني في حرب الغاء روسيا ، هو مصادرة المال الروسي بالكامل ، خاصة ان التجربة الاقتصادية لفلاديمير بوتين، وفرت لروسيا تمدد اقتصادي خارج المجال الحيوي الروسي، وجعلت موسكو تمتلك عشرات الشركات والأصول والأسهم في أوروبا وامريكا، ومع احتياج بعض دوائر الغرب لأموال روسيا سواء المملوكة للدولة او الممتلكات الخاصة ، تم سحق قيم ومبادئ احترام الملكية الخاصة وقوانين التجارة الحرة ، وبدأت عملية مصادرة مشبوهة للأموال الروسية في أوروبا وامريكا على النمط الشيوعي في دول رأسمالية ليبرالية، وسقطت كل ديباجات احترام الغرب للقانون الدولي.
كما تقرر إنسحاب الغرب من أفغانستان في سبتمبر 2021 والعراق في ديسمبر 2021، حتى لا يكون هنالك تواجد عسكري غربي خاصة امريكي في مناطق يسهل على الموالين لروسيا ان يستهدفوا فيها الجيش الأمريكي، فالانسحاب من أفغانستان والعراق لم يكن سوى التمهيد لتركز الجهد العسكري الغربي على أوكرانيا ، خاصة
ان حلف الناتو كان يدير العمليات العسكرية الغربية في أفغانستان.
بالإضافة إلى حظر تدفق الاستثمار الأجنبي وشراء التكنولوجيا وشرائح الكمبيوتر والاتصالات ومنتجات الزراعة والطعام التي تحتاجها روسيا ، في هدم صريح لمبادئ الاقتصاد حول حرية الاستثمار الأجنبي النيوليبرالية.
لقد قرر الغرب ان يهدم كافة قيمه بنفسه من اجل الخلاص من المنافسة الروسية ، او خطة بوتين لتأسيس العولمة الروسية المضادة للعولمة الغربية او الأمريكية في الأساس.
ولكن اخطر ما جرى في تلك الاجتماعات، والتي كشفت عنها وكالة أسوشيتد برس في تقرير نشر في مارس 2022 عن خطة سرية أمريكية أوروبية لحصار روسيا اقتصادياً جرت قبل الحرب عبر اجتماعات في بروكسل وباريس ولندن وبرلين ، ان هنالك شبكات مصالح غربية كانت تسعي الى تحقيق اكبر مكاسب من العقوبات على روسيا بغض النظر عن تأثير تلك العقوبات على الغرب بعيداً عن القيمة الثقافية والفكرية من تفكيك نظريات الحضارة الغربية، فأن التأثير ذهب الى الاقتصاد والتجارة الأوروبية والأمريكية، وهو ما سعت اليه شبكات المصالح الغربية بدم بارد.
اذ ان حظر القمح والنفط والغاز والسلح والذرة والزيت والفحم الروسي ، وكذا اغلب المنتجات الروسية بما في ذلك امداد بعض دول البلطيق بالكهرباء والمياه، يعني بالضرورة ان يتعاقد المتضرر مع البديل الأوروبي والامريكي للمنتج الروسي.
كما ان نقص تلك السلع وبدء حرب الجوع وحرب الغذاء سوف يرفع سعرها بشكل غير مسبوق ، وهكذا فأن البديل الأوروبي والامريكي لن يبيع بالسعر العادي قبل الحرب الأوكرانية ولكن بزيادة سوف تصل الى 50 % على الأقل ومن المتوقع ان تصل إلى 100 %.
وإذا كانت أزمة التضخم العالمي قد بدأت في أكتوبر 2021، باعتبارها التأثير الاقتصادي المتوقع لجائحة كورونا التي بدأت في يناير 2021، ولكن هنالك إشارات الى ان دوائر اقتصادية غربيه ذهبت إلى فكرة ان العالم بحاجة الى مزيد من التضخم الاقتصادي.
ان ديون الولايات المتحدة الامريكية تصل الى 20 تريليون دولار على هيئة اذون بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، ولقد عمد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الوصول بنسبة الفائدة الى اقل معدل لها منذ عقود، وهو ما أدى لخسائر باهظة لشبكات المصالح الغربية التي تستثمر في الديون الامريكية، وبالتالي فأن رفع الفائدة وبشكل هستيري لن يتم الا بحدوث ازمة تضخم أمريكية وعالمية.
كل 0.5 % زيادة في سعر الفائدة عبر الفيدرالي الأمريكي ، تعنى مكاسب سنوية تصل الى 400 مليار دولار لمستثمري أذون الخزانة الأمريكية ، إلى جانب مكاسب أخرى في الأسواق الأمريكية إضافة إلى إجبار البنوك المركزية في بريطانيا وألمانيا وصولاً إلى البنك الأوروبي الخاص بمؤسسات الإتحاد الأوروبي على رفع الفائدة.
كل ذلك يصب في مصلحة خزائن أباطرة العولمة الأمريكية.
المحلل الاقتصادي كارل سميث كتب تقريراً بوكالة بلومبيرج يوم 11 أكتوبر 2021 بعنوان “أمريكا بحاجة إلى أزمة تضخم أعلي واطول فترة مما نحن الآن” يتحدث عن حاجة اقتصاد أمريكا لأزمة التضخم العالمي التي صنعتها العقوبات الغربية على روسيا وبالفعل مع بدء الحرب الأوكرانية ، بدأ الفيدرالي الأمريكي في خطة رفع الفائدة على ست مرات ، ما بين عامي 2022 و2023، ومع أول ضربة فحسب ، بدأ العالم اجمع يأن من التأثير الاقتصادي.
المسار العسكري الذى بدأ في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 لم يجري كما خطط له بوتين ، واضطر بوتين لإعلان بدء المرحلة الثانية من الحرب في 1 ابريل 2022، شملت إبعاد جهاز المخابرات العامة وجهاز أمن الدولة الفيدرالي عن سير العمليات العسكرية، وإسناد المهمة بالكامل لإدارة المخابرات الحربية الروسية وتحميل المخابرات العامة المسؤولية الكاملة عن عدم توقع او فهم قوة الميلشيات الراديكالية الأوكرانية التي تصدت للجيش الروسي وفجرت المفاجأة التي نعرفها اليوم بـ”المقاومة الأوكرانية”، وهي المفاجأة التي كانت من نصيب الأمريكان أنفسهم قبل الروس وبعد ان كانت المخابرات المركزية الأمريكية تتوقع سقوط كييف خلال ثلاثة أسابيع من بدء الحرب ، أعلن الجيش الروسي انسحابه من محيط العاصمة الروسية مع بدء المرحلة الثانية من الحرب والتي تركزت على حسم معركة فصل الساحل الأوكراني عن الداخل الأوكراني وتحديداً بحر ازوف ثم البحر الأسود ، وفتح خط بري ما بين الغرب الروسي والشرق الأوكراني وصولاً إلى جمهورية القرم الروسية في الجنوب الأوكراني قبل الوصول إلى الحدود الأوكرانية المولدوفية وربط هذا الخط البري مع جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية الواقعة في شرق مولدوفا.
ولكن التعثر الروسي في الشق الحربي رافقه تفوق روسي في الشق الاقتصادي، حيث يدير بوتين الملف الاقتصادي بنفسه على ضوء حصوله على درجة الدكتوراه في رسالة اكاديمية بعنوان “التخطيط الاستراتيجي للموارد الإقليمية في ظل تكوين علاقات السوق”.
ان الاستعداد الروسي للمواجهة الكبرى والانتقال من الدفاع للهجوم كان دأب بوتين منذ توليه السلطة في روسيا يوم 31 ديسمبر 1999، حيث حول روسيا الى امبراطورية في عالم الغاز والنفط والفحم والكهرباء ، إضافة الى اكثر من 600 مليار دولار احتياطي نقدي بحوذه الحكومة الروسية ، ورفع مستوي الروبل الروسي، وهكذا فأنه ما ان بدأت العقوبات الغربية على روسيا حتى كان بوتين جاهز بعدد من القرارات المضادة ، ما بين التبادل التجاري مع الصين باليوان الصيني او بيع الغاز الروسي إلى أوروبا بالروبل الروسي ، واستطاع الاقتصاد الروسي والروبل الروسي الصمود خلال الأشهر الأولي من الحرب أمام العقوبات الغربية بشكل فاجأ الأمريكان والأوروبيين على حد سواء.
التعثر الإقتصادي صادف الغرب اكثر من روسيا ، اذ تفاجأ الغرب بعزوف السعودية والإمارات عن التعاون في ملف زيادة إنتاج النفط عوضاً عن حظر استيراد النفط الروسي ، وقد أدى ذلك إلى إرتفاع أسعار برميل النفط ليلامس الــ 120 دولاراً للبرميل، وقد يظن البعض ان ارتفاع سعر البرميل لصالح شبكات المصالح الغربية وهو امر غير صحيح ، اذ تنظر تلك الشبكات إلى ان سعر البرميل دون الـ 100 دولار او 110 دولار على اقصى تقدير هو الأفضل، والسبب في ذلك ان زيادة سعر برميل النفط تذهب لصالح روسيا وبالتالي فلا فائدة من العقوبات الإقتصادية على روسيا إذا ما ارتفع سعر برميل النفط وعوض تلك الخسائر.
وقد أدى عزوف السعودية والإمارات في التعاون مع أمريكا إلى قيام رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بزيارة عاجلة لكلا الدولتين من اجل قناع آل سعود وآل نهيان بالمخطط الأمريكي دون جدوي ، ما أدى إلى قيام إدارة جو بايدن بالتواصل مع إيران وفنزويلا بعد سنوات من القطيعة في ملف النفط من اجل تعويض النفط الروسي ، وايضاً دون جدوى.
وكانت معضلة ارتفاع سعر برميل النفط هي هاجس البيت الأبيض في الأشهر الأخيرة من العام 2021، وقد قرر بايدن الافراج عن الاحتياطي النفطي الأمريكي لخفض سعر برميل النفط دولياً لكبح المكاسب الروسية في هذا الملف ، ولما فشلت كافة الإجراءات الامريكية التقليدية ، فجأة أتت النجدة عبر متحور أوميكرون الذى فرمل هذا الصعود وابطأ سلاسل الامداد ودعم صعود التضخم عالمياً.
ولكن الجنون استمر ، رغم بدء وجود أزمة في السلع الغذائية في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا على وجه التحديد، واندلاع احتجاجات شعبية في اسبانيا يوم 19 مارس 2022 على ضوء نقص الوقود، ولكن شبكات المصالح الغربية وعدت حكومات الغرب بدعمهم للاستمرار في الحكم مقابل استمرار لعبة عض الأصابع مع روسيا.
فلا مشكلة لشبكات العولمة النيوليبرالية في ان يعاني الإنسان الغربي ، او حتى تسقط حكومات الغرب ، فالحكومة التي تسقط سوف تأتي بدلاً منها حكومة أخرى لديها نفس القابلية للتعاون مع شبكات المصالح من اجل استمرار اللعبة بغض النظر عن حقوق الانسان الغربي، فالهدف الأساسي هو استمرار مكاسب تلك الشبكات وفى نفس الوقت القضاء على المنافس الروسي هذه المرة للابد
بعد ان فشلوا في الاجهاز على المنافس السوفيتي عقب انهياره.
كما ان المبالغة في الجنون وضرب الإقتصاد العالمي وهدم المعبد على رؤوس الشعوب في الغرب قبل الشرق من اجل التخلص من روسيا ، هو رسالة صريحة من الغرب إلى “العدو التالي”، إلا وهو الصين ، بأن الغرب لن يهمه انهيار قيم التحضر الغربي ، او انهيار الدولار واليورو، او حروب الجوع والنفط والغاز والطعام ، في مقابل التخلص من المنافس العالمي ، بل ان شبكات المصالح الغربية سوف تجد لها مكسب في هذا الانهيار ، ولاحقاً عقب التخلص من المنافس الروسي ، ثم المنافس الصيني، سوف تعيد بناء الاقتصاد العالمي وهندسة التجارة الدولية بما يتناسب مع مصالحها فحسب.
ان أزمة الغذاء العالمية التي تلوح في الأفق ، سوف تجعل الطعام حصرياً في يد شبكات المصالح الغربية ، او الدولة الوطنية القوية مثل مصر ، وفى هذا المضمار فأن شبكات العولمة الغربية سوف تتحكم في الدول التي ليس لديها مشاريع غذائية او تنموية ، ويصبح الغرب هو الذى يحدد من الذى يستحق الغذاء من عدمه، من هو الذى يستحق الطاقة من عدمه.
ان هذه الفيدرالية العالمية هي أساس فكرة العولمة ، وان تخسر الدول استقلالها الوطني مقابل سيادة نموذجة اللادولة مقابل نموذج دولة العولمة.
صعود الحركة الوطنية والتيار القومي
ان الرهان الوحيد لكسر شبكات المصالح الغربية لن يكون بانتصار روسيا او حتى الصين ، ولكن انتصار الحركات الوطنية القومية في أوروبا وامريكا ، وتحرير القرار الوطني لهذه الدول من قبضة العولمة الامريكية وشبكات المصالح الغربية ، فالدولة الوطنية هي الحل ، وسنوات حكم القوميين للولايات المتحدة في زمن إدارة دونالد ترامب هي اكثر سنوات العالم هدوءاً منذ انتهاء الحرب الباردة ، واكثر سنوات الرخاء الاقتصادي للعالم اجمع منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، ويكفي ان ننظر الى الأرقام الإقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية على المستوي الدولي ، ومصر على مستوي الأسواق الناشئة في تلك السنوات، حتى ندرك تلك الحقيقة.
استهداف مصر والأسواق الناشئة
ان الغرب وهو يسارع إلى هدم معبد الاقتصاد الدولي فوق رؤوس الجميع على امل تحقيق مكاسب سرية تتحول الى مكاسب علنية عقب هزيمة روسيا ثم الصين ، يسعى ايضاً إلى فرملة وإبادة التجارب الاقتصادية المهمة مثل التجربة المصرية ، فالهدف هو إبادة الأسواق الاقتصادية الناشئة التي صعدت في سنوات ترامب الأربع، ومصر هي المستهدف الأول في هذه اللعبة.
لذا فأن لعبة ضرب الإقتصاد وحروب الجوع والغذاء وسلاسل الإمداد ورفع الفائدة وسحب الإستثمار الأجنبي ، وأزمة التضخم العالمي التي تضرب أمريكا نفسها قبل أي دولة اخرى ، إضافة إلى بعض فعاليات حرب العملات الثالثة التي اندلعت عام 2008 بين الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والدولار الكندي من جهة ، واليوان والروبل والين الياباني من جهة اخري ، كلها مخططات
بها جزء رئيسي متعلق بمصر وكيفية اسقاط تلك التجربة حتى لا تصبح منافس قوي في المستقبل لتجارب اقتصادية عتيقة في أوروبا.
امتيازات أمريكية مقابل دعم أوكرانيا
ثم ان الولايات المتحدة الامريكية ليست خاسرة على طول الخط من دعمها لأوكرانيا كما تذهب بعض القراءات ، اذ ان اغلب المساعدات التي تقدمها أمريكا، تحصل مقابلها على امتيازات وسلع اوكرانية فورية في مجال الزراعة والغذاء والثروات الطبيعية بأقل من نصف ثمنها في السوق العالمي، واكثر أهمية للولايات المتحدة الامريكية مستقبلاً، وحينما تنتهي الحرب سوف يكون هنالك واقع جديد يتمثل في امتيازات حصرية للولايات المتحدة الامريكية في الأسواق والاقتصاد الاوكراني.
كيف يصعد الدولار ويقترب انهياره في نفس الوقت
وقد يتساءل البعض كيف يتم التنبؤ بسقوط الدولار ، بينما صعوده بهذه القوة على ضوء رفع الفائدة في الفيدرالي الأمريكي يعصف بالعالم اجمع، اليس هذا دليلاً على انه العملة الأقوى في العالم حتى الان وان سقوطه ليس بالسهولة المنتظرة ؟
والحاصل ان الدولار “نمر من ورق” بالمعني الحرفي للكلمة ، اذ ان الولايات المتحدة الأمريكية تطبع الدولار بدون غطاء من الذهب وعلى هذا الأساس فأننا أمام فقاعة سوف تنفجر في اى لحظة لتخسف بالإقتصاد الأمريكي والعالمي.
وما يحدث من افتعال مشاكل اقتصادية حول العالم وموفقة أمريكا على قيادة هذا الافتعال هو في واقع الامر محاولات كارثية وخائبة لتأجيل هذا انفجار فقاعة الدولار.
عودة كورونا ، من يحاول تفجير شنجهاي؟
وللمفارقة فأن الصين في بادئ العمليات العسكرية قد على صوتها الرافض للعقوبات الغربية على روسيا ، وتحدثت تقارير أمريكية عن دعم صيني سري لروسيا.
ولكن فجأة صمتت بكين ، وخفت صوتها لدرجة ان البعض لم يلاحظ هذا الصمت المفاجئ وظنه تريث استراتيجي او مراقبة جيوسياسية للموقف في أوروبا الشرقية وانعكاساته على الشرق الأقصى، ولكن الحاصل ان تلك الايادي المجرمة التي تمتلك محابس الأوبئة في زمن الحرب البيولوجية والايكولوجية قد سارعت الى ضربة جديدة ، لم تكن في ووهان – مهد جائحة كورونا – هذه المرة، ولكن الضربة كانت اشد، وتحديداً في شنجهاي التي اجتاحها كوفيد – 19 بشكل مفاجئ ومتشعب للغاية ودون تفسير واضح.
ما ان حل الأسبوع الثاني من مارس 2022 حتى راحت شنجهاي تسجل يومياً 20 الف حالة إصابة بالفيروس المميت ، ما جعل السلطات الصينية تقوم بعزل المدينة في 27 مارس 2022 عن العالم بشكل لم يحدث مع أي مقاطعة صينية منذ بدء الجائحة رسمياً في يناير 2020، فقد تم غلق المدينة بحواجز اسمنتية وبلاستيكية ومنع دخول او خروج أي شخص باستثناء الاطقم الطبية التي عملت على الإمكانيات المتاحة داخل شنجهاي.
وأدى ذلك إلى مشكلة في الطعام والمياه والطاقة داخل المدينة ما أدى إلى اندلاع انتفاضة شعبية داخل شنجهاي منتصف ابريل 2022.
السلطات الصينية حولت بعض المجمعات السكنية الى مراكز للحجز الصحي وتم اجلاء السكان من تلك المناطق، بالإضافة إلى نصب عشرات المستشفيات المؤقتة.
وشنجهاي هي عاصمة الصين الاقتصادية ، واكبر مدينة صينية على الاطلاق ، وهى المرفأ والميناء الصيني الأهم، ويبلغ عدد سكانها 24.8 مليون نسمة ما يجعلها اكبر مدن الصين من الناحية السكانية، وعرفت المدينة منذ تأسيسها في القرن الحادي عشر بنشاطها في التجارة البحرية ، وفى القرن التاسع عشر توافد الاحتلال البريطاني والفرنسي على المدينة طمعاً في المكانة التجارية ، وصولاً إلى الولايات المتحدة الامريكية واليابان في القرن العشرين، واثناء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) التي شهدت احتلال اليابان للصين سيطرت طوكيو على المدينة ، وعقب انتهاء الحرب وامام المقاومة الصينية انسحبت بريطانيا وفرنسا وامريكا من المدينة بحلول عام 1949.
وعقب الانفتاح الاقتصادي في الصين نهاية سبعينات القرن العشرين تحولت المدينة الواقعة شرق الصين الى عاصمة الاقتصاد الصيني، وتمتلك الحصة الأكبر من صناعات الصين في مجالات النقل البحري والتعدين والسفن والغزل والنسيج ، ما جعلها من اكبر مراكز الاقتصاد والمال والتجارة في العالم.
وكانت الصين قد عانت من خسائر اقتصادية فادحة جراء وباء كورونا، وقد وبخت الصحافة الدولية الحكومة الصينية بانها لم تعلن عن خسائرها كاملة وفقا لمبدأ الشفافية، وفى سبتمبر 2021 اعلن رسمياً بعد تكتم شديد انهيار شركة أيفرجراند عملاق العقارات الصينية وثاني اكبر مطور عقاري في الصين، ما جعل العالم يتخوف من تكرار ازمة الرهن العقاري الأمريكي صيف 2008 والتي تحولت الى الازمة الاقتصادية العالمية الشهيرة في سبتمبر 2008.
زمن التوحش الفائق
ما بين أجيال جديدة من كورونا يتم التمهيد لها، وربما اوبئة اكثر خطورة في عشرية الأوبئة الذكية التي تنفذ اجندة اقتصادية لصالح شبكات بعينها في الغرب ، وأزمة اقتصادية دولية تحت عنوان التضخم سوف يتبعها ازمة اقتصادية عالمية ثانية تحت عنوان الركود، اسقط الغرب عمداً كافة مفاهيم الحضارة الغربية والحداثة الغربية التي سعى الغرب لتكريسها باعتبارها صورة عن تحضره لمدة تزيد عن 200 عام.
واثبت الغرب قبل أي طرف آخر ان كل شيء خاضع لحسابات السياسة، سواء كانت الرياضة او الفن او الأدب والصحافة والثقافة والفكر وحتى حقوق الحيوان ، وان العالم اليوم يعيش في زمن التوحش الفائق، فالحضارة الغربية تآكلت والغرب بحاجة الى عصر جديد من التنوير حتى يستطيع انجاز فلسفة ومفهوم متحضر لعصر ما بعد الحداثة.
وان شبكات المصالح الغربية التي تدير العولمة الأمريكية النيوليبرالية تتآمر على الغرب قبل الشرق ، طالما في ذلك
انتصاراً لمصالحها الاقتصادية ، وانتصاراً على المنافسين الأقوياء في الصين وروسيا ، ودول الأسواق الناشئة وعلى رأسها مصر ، والقوى الاقتصادية الخليجية الكبرى وتحديداً المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، والنمور الآسيوية مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية ، وفى هذا الطريق المعبد بمذابح الاقتصاد والجوع والعملة ضد الإنسانية ، لا يجد الغرب
أدني مشكلة في تفجير الدول الوظيفية التي ساعدته لسنوات من اجل رسم واقع جديد ، مثل تركيا وإيران وقطر ، إضافة الى ضرب فكرة الوحدة الأوروبية حتى لا يصبح الإتحاد الأوروبي منافساً للولايات المتحدة الامريكية ، فالمطلوب ان تبقى أمريكا هي الأساس لمدة قرن آخر من الزمان بحسب مشروع القرن الأمريكي الذى تم تأسيسه في تسعينات القرن العشرين ، واي محاولة أوروبية للتمرد على هذه التوصية سوف تجابه بمنتهى العنف، تماماً كما حاولوا دائماً كبح جماح تجربة المانيا ما بعد انهيار سور برلين، وبريطانيا ما بعد بريكست ، وفرنسا الماكرونية.