✍️ يوحنا عزمي
الصين خلال الأيام الأخيرة حققت اختراقاً تكنولوجياً غير مسبوق، خطوة كانت الولايات المتحدة واثقة تمامًا أن بكين لن تتمكن من الوصول إليها خلال العقود القريبة ، بل كانت تراها شبه مستحيلة. ورغم الحصار التكنولوجي الغربي الذي حاول أن يخنق قدرة الصين على اللحاق بالسباق العالمي، إلا أن بكين استطاعت أن تفاجئ الجميع وتنجح في تصنيع آلة تُعتبر أخطر ما يمكن في عالم التكنولوجيا الحديثة ، آلة قادرة على كسر احتكار الغرب لصناعة الرقائق الإلكترونية، وهي الصناعة التي تتحكم في كل شيء تقريبًا: من الهواتف الذكية ، إلى الذكاء الاصطناعي ، إلى المقاتلات الحربية والصواريخ الذكية، وحتى الأنظمة العسكرية فائقة التطور.
هذا التطور لم يأتِ فجأة ، ولم يكن مجرد قفزة تقنية، بل كان نتيجة مشروع شديد السرية تعمل عليه الصين منذ ست سنوات كاملة ، بخطة معقدة وهادئة تشبه تمامًا المشاريع الأمريكية التاريخية التي غيرت شكل العالم ، ولذلك أطلق عليه الخبراء لاحقًا “مشروع مانهاتن الصيني” تشبيهًا بمشروع القنبلة النووية الذي غير ميزان القوى في نهاية الحرب العالمية الثانية.
فكرة أن الصين تنجح في امتلاك آلة من هذا النوع كانت بالنسبة لواشنطن خيالًا بعيدًا، لأن أوروبا وأمريكا اعتبرتا تكنولوجيا تصنيعها سراً قومياً لا يمكن السماح بتسربه أو استنساخه ، لكن الواقع تغير بشكل مفاجئ.
القصة تبدأ داخل منشأة شديدة السرية في مدينة شينزن، المدينة التي أصبحت تُعرف بوادي السيليكون الصيني. المكان يعمل لسنوات طويلة دون أي صور أو بيانات أو أسماء موظفين ، لا يظهر في تقارير ، ولا يأتي ذكره في وسائل الإعلام ، وكأنه غير موجود من الأساس. داخل هذا المعمل ، فريق من المهندسين الصينيين كان يعمل على تحقيق المستحيل ، واستطاع بالفعل الوصول إلى تصميم وتشغيل نموذج أولي لآلة EUV، وهي الآلة الأعقد على الإطلاق في عالم صناعة الرقائق.
التكنولوجيا التي تعتمد عليها هذه الآلة، والمعروفة بالطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى، هي قلب صناعة أشباه الموصلات الحديثة، وهي التقنية الوحيدة القادرة على طباعة الدوائر الإلكترونية بدقة تصل إلى مستوى النانومتر الواحد، وهي الدقة التي تحدد اليوم قوة أي دولة عسكريًا واقتصاديًا.
العالم كله يعلم أن شركة واحدة في العالم فقط كانت تحتكر تصنيع هذه الآلات: الشركة الهولندية العملاقة ASML، التي تعتبرها الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيًا في المعركة التكنولوجية ضد الصين. لذلك فرضت واشنطن حظرًا مطلقًا على تصدير التكنولوجيا إلى بكين ، وقالت مرارًا إن الأمر لن يتحقق للصين قبل عام 2040 على الأقل ، إن تحقق أصلًا.
ومن دون هذه الآلة، كانت الصين في موقف الضعيف : لا تستطيع تصنيع شرائح متقدمة ، ولا بناء ذكاء اصطناعي منافس، ولا تطوير مقاتلات أو صواريخ تعتمد على التحكم الدقيق. كان كل شيء مرتبطًا بالغرب.
لكن الصين لم تتصرف كضحية ، بل اتبعت المسار الذي اتبعته الولايات المتحدة نفسها في الأربعينات عندما شعرت أن مستقبلها مهدد. بكين جمعت أفضل العقول الصينية المنتشرة في العالم، واستقطبت بشكل ممنهج خبراء سبق أن عملوا داخل شركة ASML نفسها. بعضهم عاد من التقاعد بعروض مالية هائلة ، وبعضهم أغرته الامتيازات والسكن والحماية ، وكلهم عند وصولهم إلى المعمل تم تغيير هوياتهم ومنحهم أسماء جديدة ، وطُلب منهم قطع أي صلة بحياتهم السابقة.
العمل داخل المشروع كان يتم بنظام صارم : كل فريق مسؤول عن جزء صغير لا يعرف غيره ، ولا أحد يطلع على الصورة النهائية سوى دائرة ضيقة جدًا من المسؤولين تحت إشراف مباشر من الرئيس الصيني شي جين بينغ نفسه.
سنوات من العمل السري انتهت بالوصول إلى إنجاز ضخم: الآلة الصينية أصبحت قادرة على توليد ضوء EUV مستقر، وهذه الخطوة وحدها تعد معجزة هندسية. النسخة الصينية أكبر حجمًا من النسخة الهولندية وأكثر تعقيدًا في بنيتها، لكنها تعمل ، وتمثل أول كسر حقيقي للاحتكار الغربي منذ ثلاثين عامًا. تقديرات الاستخبارات الغربية كانت تتوقع أن الوصول إلى هذه المرحلة يحتاج عقودًا ، لكن الصين تجاوزت التوقعات واختصرت الطريق عشر سنوات كاملة، ووصلت إلى مرحلة التشغيل الأولي قبل 2030، وهو ما قلب حسابات العالم رأسًا على عقب.
حتى الآن، الآلة لم تنتج شرائح جاهزة للاستخدام التجاري، لكن ذلك لم يعد القضية الأساسية. المهم أن الصين عبرت أخطر نقطة، وأن ما تبقى هو تحسين تدريجي حتى تصل إلى الإنتاج الواسع. والأهم أن هذه الخطوة جعلت كل ما كانت تفعله أمريكا طوال السنوات الماضية يبدو بلا قيمة: العقوبات على هواوي ، حظر شرائح إنفيديا، التضييق على معدات التصنيع، كلها كانت تؤخر الصين ، لكنها لم توقفها.
بكين كانت تعمل في الظل على مشروع سيُسقط أهم ورقة ضغط تملكها واشنطن.
وبمجرد وصول الصين إلى هذا المستوى، بدأت ردود الفعل تتسارع. الولايات المتحدة التي كانت تمنع إنفيديا من بيع شرائحها للصين ، عادت فجأة وسمحت بذلك بقرار من الرئيس ترامب ، ليس كرمًا، بل إدراكًا أن الصين أصبحت قادرة على الاستغناء عن الشرائح الأمريكية قريبًا. والأغرب أن الصين نفسها ردت بحظر داخلي ، ومنعت شركاتها من استيراد أي شريحة أمريكية دون تقديم مبررات رسمية، وكأنها تقول لواشنطن : “لم نعد بحاجة إليكم”.
العالم الآن يقف على أعتاب مرحلة جديدة تمامًا، توازن القوى فيها يتغير بسرعة. بكين تتحرك بثقة غير مسبوقة، والولايات المتحدة تسعى لإعادة ترتيب جبهاتها استعدادًا لصراع تعتبره حتميًا. كل المؤشرات تقول إن المواجهة الكبرى ستبدأ من تايوان، القلب الحقيقي لصناعة الشرائح، والجزيرة التي يريد كل طرف السيطرة عليها قبل أن يفقد المبادرة للأبد.
وهكذا، يصبح ما يحدث اليوم ليس مجرد سباق تكنولوجي، بل مقدمة لصراع عالمي يعيد رسم شكل القرن الحادي والعشرين بالكامل، ويجعل السؤال المطروح ليس عن طبيعة المواجهة… بل عن توقيتها.




