مقالات

توقعات راي داليو لعام 2026 : سنة الإنفجار الهادئ وضغط الديون العالمي

✍️ يوحنا عزمي

عندما يتحدث راي داليو عن المستقبل ، فهو لا يقدم توقعات تعتمد على الحظ أو الحدس ، بل ينظر إلى العالم بمنطق “الدورات الكبرى” التي تتكرر عبر التاريخ : دورات تتراكم فيها الديون حتى تصل لحدّ الخطر، ومجتمعات يزداد فيها الانقسام ، وقوى عالمية تتصارع على النفوذ ، وتكنولوجيا تظهر فجأة وتقلب القواعد التي اعتاد عليها الاقتصاد.

ولأن الرجل لا يتعامل مع السنوات بوصفها مجرد أرقام، فإن ذكره لعام 2026 يحمل معنى أبعد بكثير من كونه تاريخًا على التقويم ؛ فهو يعتبرها سنة تصل فيها الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى ذروة مؤثرة ، أشبه بـ“لحظة اختبار” قد تغيّر شكل المرحلة كلها.

في نظر داليو ، 2026 ليست مجرد محطة عابرة ، بل سنة تتصادم فيها السياسة مع الاقتصاد بشكل قد يعطل أي محاولة لعلاج أزمة الديون. فهي سنة انتخابات نصفية في الولايات المتحدة ، وهي سنوات بطبيعتها ترفض فيها الحكومات اتخاذ قرارات غير شعبية : لا تخفيض إنفاق ، ولا رفع ضرائب ، ولا إصلاحات يمكن أن تُغضب الناخب. هذه الحسابات السياسية تجعل المشكلة الحقيقية أكبر، لأنها تترك “الجرح مفتوحًا” ليكبر ويزداد نزيفًا، بدلاً من أن يتم التعامل معه مبكرًا قبل أن يستفحل.

الخوف الأكبر عند داليو ليس هو حدوث ركود اقتصادي عادي ، بل أن تنزلق الاقتصادات الكبرى إلى أزمة ديون حقيقية. الأزمة التي يتحدث عنها تشبه “سكتة قلبية للاقتصاد”، وليست مجرّد انخفاض في النمو. فالعالم اليوم يتعامل مع ديون سيادية ضخمة، وتكاليف خدمة دين ترتفع عامًا بعد عام، واقتراض مستمر يخلق دائرة مغلقة من إعادة التمويل. وإذا حدث خلل كبير في هذا النظام ، فإن أثره لن يكون محليًا فقط ، بل سيصيب العملات والسندات والبنوك والأسواق العالمية كلها، كما حدث في أزمات تاريخية سابقة كانت بدايتها في قارة واحدة ، ثم تحولت سريعًا إلى موجة تضرب كل مكان.

ورغم أن كثيرين يظنون أن “أزمة الديون” مسألة أمريكية، إلا أن داليو يصر على أن المشكلة عالمية. فاقتصادات ضخمة في أوروبا وفي الصين نفسها تقف أمام ضغوط شبيهة. كثير من الدول تعتمد على العجز المالي ، وتتعامل مع الديون كما لو أنها بلا سقف. وداليو يحذر من أن ترك الأمور على هذا الوضع يجعل نتائجها “مزعزعة للاستقرار”، لا سيما في عالم يتغير بسرعة.

ورؤية داليو لا تفصل الاقتصاد عن السياسة أو المجتمع. الرجل يرى أن هذه العوامل الثلاثة تتشابك لتصنع دورة تاريخية : الديون تضغط على حياة الناس فتزيد الضرائب وترتفع الأسعار وتتقلص الفرص ؛ والضغوط تولد غضباً اجتماعياً واستقطابًا سياسياً ؛ والاستقطاب يصنع قرارات شعبوية قصيرة النفس ؛ ثم تأتي التوترات الدولية لتضيف طبقة جديدة من التعقيد ، مع تنافس القوى الكبرى واستخدام التجارة والتكنولوجيا كأدوات صراع بدلًا من التعاون. ومن وجهة نظره ، هذه ليست أخبارًا يومية بل مقدمات تُنذر بتحول أكبر.

وأمام هذا المشهد المتوتر، يتناول داليو وضع الدولار العالمي بواقعية. فهو لا يتحدث عن انهيار العملة الأمريكية ، بل عن فقدان تدريجي لجاذبيتها كملاذ رئيسي ، خصوصًا لو زادت التدخلات السياسية أو لجأت الحكومات إلى طباعة الأموال كحل سهل. هذه التغيّرات تجعل المستثمرين والمؤسسات يعيدون التفكير في “المسلمات” التي حكمت الأسواق لعقود.

ورغم الصورة المقلقة، لا يرى داليو المستقبل مظلمًا بالكامل. فالتكنولوجيا—وخاصة الذكاء الاصطناعي— قد تكون القوة الوحيدة القادرة على منح العالم وقتاً إضافياً. التطور السريع في الإنتاجية ، وقدرة الشركات على خفض التكاليف وتحسين العمليات ، يمكن أن يخلق نمواً يعوض بعض آثار أزمة الديون ، لكنه لا يلغي الخطر. التكنولوجيا قد تساعد، لكنها لا تستطيع أن تُصلح نظاماً ماليًا تُرك لعقود دون علاج.

ومن بين كل ما قاله داليو، هناك رسالة صامتة لكنها واضحة: 2026 ليست سنة انهيار ، لكنها سنة ستكشف من استعد ومن تجاهل الإشارات. فإذا واصلت الحكومات سياسة التأجيل ، وتركت الديون تتضخم ، فإن احتمالات حدوث صدمات كبيرة ستزداد. أما إذا تم اتخاذ خطوات إصلاحية حقيقية، وجرى التعامل بهدوء مع التوترات الدولية، فقد يمر العالم من هذه المرحلة ولكن ليس بدون تكلفة.

بالنسبة لمن يديرون الأعمال—not فقط المستثمرين—يحاول داليو أن يوضح أن الاستعداد الحقيقي يبدأ قبل العواصف لا بعدها. السيولة النقدية يجب أن تكون محسوبة لتتحمل الفترات الصعبة ، وتنوع العملاء والموردين يصبح ضرورة في عالم تتغير فيه التحالفات بسرعة، ومتابعة سعر الفائدة والتمويل صارت مسألة حياة أو موت لبعض الشركات. أما الاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي والكفاءة التشغيلية، فهو الطريق الوحيد لكسب الوقت أمام الضغوط الاقتصادية المتوقعة.

السيناريو الأسوأ في رأيه ليس أن تأتي الحكومات بحلول، بل أن تتأخر لدرجة تجعل “الحل يُفرض عليها”. وعندها تبدأ الخيارات المؤلمة: خفض قسري للديون ، أو تضخم مرتفع يمحو جزءًا من قيمتها، أو تشديد مالي يضغط على الشركات والأفراد. مثل هذه القرارات تغير مزاج الأسواق وتجعل المستثمرين أكثر حذرًا ، وتدفع الشركات الضعيفة إلى السقوط، بينما تنجو فقط الشركات التي أعدت نفسها مبكرًا.

وفي هذه البيئة المشحونة ، تظهر الشركات الأكثر هشاشة: تلك التي تقوم على الديون ، وتملك هوامش ربح ضعيفة، وتحتاج لتمويل رخيص كي تعيش. وعلى الجانب الآخر، تقف الشركات الأقوى: شركات تمتلك قدرة تسعير مرنة، تدفقات نقدية مستقرة، مرونة تشغيلية، وتنويعاً جغرافياً يحميها من صدمات السوق.

أما الأسواق الناشئة ، فستقف في موقع حساس. فهناك من قد يستفيد من إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية، وهناك من قد يتعرض لضغوط العملة والتمويل وخروج رؤوس الأموال. والفارق بين النجاح والسقوط في هذه الأسواق يعتمد على وجود سياسة مالية منضبطة، واحتياطي قوي، ونمو حقيقي غير قائم على الديون.

ويرى داليو أيضًا أن الاستقطاب الاجتماعي لم يعد مسألة سياسية فقط، بل عامل اقتصادي مباشر. فكلما ازداد غضب المجتمع، زادت القرارات الشعبوية ، وكلما زادت القرارات الشعبوية ارتفعت تكلفة المستقبل. لذلك تبدو 2026 حساسة بشكل خاص، لأنها تجمع بين ضغط اقتصادي مرتفع ومجتمعات أكثر انقسامًا.

أما الذكاء الاصطناعي ، فرغم أنه ليس عصا سحرية، إلا أنه يتحول إلى خط فاصل بين من يزدهر ومن يتراجع.

فالشركات التي تبنته مبكرًا ستشعر بأنها تملك أرضًا صلبة، بينما الأخرى ستكتشف فجأة أن الأرض تُسحب من تحتها. وفي 2026 مثلاً، سيكون الفرق بين من يمتلك الكفاءة ومن لا يمتلكها أكبر من أي وقت مضى.

وفي النهاية ، الرسالة الخفية التي يمررها راي داليو هي عدم الاعتماد على فكرة أن الغد سيكون نسخة من الأمس.

فالعالم يقف على عتبة مرحلة جديدة : مرحلة أقل تساهلًا مع الديون ، وأقل صبرًا على عدم الكفاءة. ، وأكثر قسوة على من يفتقدون التخطيط.

ومن هنا، يصبح السؤال الحقيقي لكل مدير وصاحب عمل: هل يستطيع الهيكل المالي أن يتحمل صدمة؟ هل القرارات مبنية على الراحة أم على الاستدامة؟ هل نستثمر في تطوير العقل الذي يدير النظام ، أم نصرف وقتنا على تشغيله فقط؟ لأن سنة 2026 ليست سنة تخويف ، بل سنة “فرز”. ومن يفهم الرسالة مبكرًا ، يبدأ الاستعداد قبل أن تأتي العاصفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!