مقالات

الدين كأداة إحتلال : كيف تُسيطر القروض على الدول دون طلقة واحدة

✍️ يوحنا عزمي

العالم اليوم يبدو وكأنه مرتبط بسلاسل مالية غير مرئية أكثر من كونه مهددًا بالجيوش أو الغزوات المباشرة، فالدول لا تفلس حقًا ، لكنها تُقيد وتُربط بآليات دين معقدة تضمن السيطرة على مواردها وسلوكها الاقتصادي والسياسي لفترات طويلة.

الفارق بين الدولة التي تنهار تمامًا وتلك التي تُربط بالديون ليس مجرد مسألة أرقام ، بل هو الفرق بين الانهيار الكامل وبين السيطرة المدروسة بعناية، تلك السيطرة التي قد تدوم عقودًا دون الحاجة لطلقة واحدة ، فقط عبر أدوات مالية وشروط اقتصادية دقيقة.

عندما ننظر إلى حجم الديون العالمية اليوم ، نجد الرقم مذهلًا وغير مسبوق : إجمالي ديون العالم تجاوز 310 تريليون دولار ، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو أكبر رقم ديون مسجل في تاريخ البشرية. السؤال الذي يطرح نفسه ليس كيف سيُسد هذا الرقم الضخم، بل لماذا يبدو أن لا أحد يسعى فعليًا لإغلاق هذا الباب؟ الأمر يشير إلى أن الدين ليس مجرد عبء مالي، بل أداة نظامية تُستخدم للتحكم، وإعادة تشكيل علاقات القوة بين الدول.

في الماضي ، كان الاحتلال يظهر بوضوح : جيش يحتل ، علم يرفع ، حاكم أجنبي يُفرض. اليوم، الاحتلال يتخذ شكلًا أكثر دقة ودهاءً : قرض يُمنح ، فائدة تُفرض ، شروط يُلتزم بها، وابتسامة دبلوماسية تكمل المشهد ، دون أي طلقة.

أمريكا نفسها تمثل المثال الأبرز على هذا النموذج ، فهي أكبر اقتصاد في العالم ، لكنها في الوقت ذاته أكبر دولة مدينة ، إذ يبلغ حجم ديونها أكثر من 34 تريليون دولار. وعلى الرغم من هذا المبلغ الهائل ، فإنها لم تقع ، لأن الدين هنا لا يُنظر إليه كعبء فقط ، بل كأداة لإدارة النظام المالي العالمي، أداة تحافظ على هيمنة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على السيطرة عبر الأدوات المالية وليس القوة العسكرية وحدها.

لكن الصورة تصبح أكثر وضوحًا وقسوة عندما نتحدث عن الدول الأضعف اقتصاديًا. هذه الدول غالبًا ما تحتاج إلى تمويل خارجي ، عملة صعبة ، دعم للاستيراد، واستقرار مؤقت للحفاظ على وظائف الدولة. فتضطر للجوء إلى القروض، ومع القروض تأتي شروط صارمة، برامج إصلاحية تقشفية، خصخصة، تقليص الدعم، وضغوط على المواطنين.

النتيجة تكون أن الدولة تسدد ديونها في النهاية ، بينما يتكسر المجتمع ويشعر بالضغط والتراجع في مستوى المعيشة والخدمات الأساسية.

الآثار الاجتماعية للدين واضحة ومباشرة : الدعم يقل ، الأسعار ترتفع ، المرتبات تتجمد، والخدمات العامة تضعف. المواطن يُقال له ببساطة: “شد الحزام”، لكن الحزام لا يشد على الجميع بنفس القوة ، مما يزيد من الفجوات الاجتماعية ويعمّق الإحساس بعدم المساواة. صندوق النقد الدولي، رغم أنه ليس “شريرًا” بحد ذاته ، يمثل أداة ضمن نظام يهدف لضمان استرداد القروض واستقرار الدائن ، وليس رفاهية المواطنين. الإصلاح المالي الذي يُطبَّق غالبًا يبدو متوازنًا على الورق ، لكنه قاسٍ على أرض الواقع ، فالأعباء تقع على كاهل المجتمعات الضعيفة أكثر من غيرها.

الدين بهذا المعنى لا يُعد أزمة بقدر ما هو سياسة متعمدة، فهو يحدد حدود قرارات الدولة ويقلص هامش حركتها، ويجعل السداد أولوية دائمًا على حساب التنمية الحقيقية.

السؤال الذي تُطرح الإجابة عليه ليس ما ينفع الشعب، بل ما يرضي الدائنين، وهو ما يُعرف بفقدان السيادة الناعم. أخطر ما في الأمر أن هذه الديون لا تُحل ، بل تتجدد وتُرحل وتكبر مع الوقت ، لأن أي دين يُسد يخرج صاحبه من دائرة السيطرة، والغاية من الدين هنا ليست السداد ، بل الحفاظ على النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي عبر الوقت.

هذا يفسر سبب استمرار بعض الدول تحت برامج الإصلاح لعشرين عامًا أو أكثر ، مع شعوب متعبة لا تصل أبدًا إلى نتائج ملموسة ، حيث تتكرر الوصفات نفسها ، وتظهر نفس النتائج السلبية مرارًا وتكرارًا. الدين هنا يصبح أداة لإعادة تشكيل الدولة والمجتمع وفق مصالح النظام العالمي، وليس وسيلة للإنقاذ أو التنمية.

وفي النهاية ، الاستعمار لم ينته حقًا، بل تغيرت شكله، فبدل الجيوش والأسلحة ، أصبح يرتدي بدلة رسمية، يحمل دفاتر مالية، ويمسك بمعايير الاقتصاد والسياسة لتفرض السيطرة على الشعوب، والحرية السياسية وحدها لا تكفي إذا لم يكن هناك استقلال اقتصادي حقيقي ، لأن نصف الصورة يظل مفقودًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!