بقلم: ضياء علي الدعاس
منذ أكثر من سبعة عقود، بدأت الحكاية……ولم تنتهِ…
تبدل فيها الوجوه، وتعاقبت عليها الحكومات، وتغير لون الخرائط، لكن الدم ظل كما هو…
يُسفك، ثم يُنسى، ثم يُعاد سفكه من جديد.
ليست كل الحروب تبدأ بإطلاق النار يا صاحبي، بعضها يبدأ حين يصرخ طفلٌ فلا يسمعه أحد،
وحين تُهد بيتًا على أهله، ثم تمنح من دمره وسامًا على صدره؛ وبعضها لا تنتهي بانسحاب الجيوش، بل تبدأ في تلك اللحظة التي يُغلق فيها باب البيت خلف الخارجين منه إلى المجهول، وهم يظنون أنهم سيعودون قريبًا… ولم يعودوا.
ما أشد وجع الحروب حين تكون أعمارنا هي ثمنها، وحين تُدار بإسمنا ولا نُستشار فيها، وحين نُقتل فيها لا لأننا نحمل سلاحًا، بل لأننا نحمل اسمًا، أو ننتمي لرقعةٍ طمع بها الطامعون.
كم من حلمٍ بدأ في فجرٍ غائم، ثم سُلب مع أول قذيفة،وكم من دارٍ تحوّلت إلى صورةٍ في الذاكرة،وكم من وجهٍ لم يبقَ منه إلا الاسم في شريط الأخبار.
لكن ما هو أشدُ من الحرب… أن تستمر بعدها!!
فالغربة، يا صاحبي ليست اختيارًا، بل عقوبة تكميلية..هي الجزء الثاني من المأساة، الذي كُتب علينا أن نحياه دون نصٍ، دون مخرج، ودون تصفيق في النهاية.
الغربة هي أن تمشي بين الناس بقلبٍ معطوب،
أن تحتفل بأعيادٍ لا تعرفها، أن تغمض عينيك على لهجةٍ لا تخصك، أن تُولد في المنفى، أوتموت في المنفى، ويُدفن حنينك في المنتصف.
أشكو لمن غُربةَ الأيام في وطنٍ
يمتدُّ في القلبِ شِريانًا.. فشِريانَا؟
-فاروق جويده
إن في هذا العالم أناسًا لم يعرفوا الوطن إلا كخريطة،لم يتعلموا أسماء الأحياء في مدنهم، بل أسماء المخيمات،ولم يحفظوا أغاني الجدات، بل حفظوا عدد الخطوات بين الحدود والحواجز.
إن من يُولد مرتين، لا يحيا مرتين.
بل يكتب سيرةً معلقة بين “كان يا ما كان”وبين “ربما نعود ذات يوم”.
ويا للعار…كم من ظالمٍ نراه يعتلي المنابر باسم السلام،وكم من شهيدٍ ما زال يُتهم بأنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
لا تَسألِ الحُلمَ عمن باع أو خانَا
واسأل سجونًا تُسمّى الآن أوطانَا
-فاروق جويده
وأما أولئك الذين مضوا في صمتٍ لا تؤرّخه الصحف، ولا تحصيهم السجلات، فهم وإن غاب ذكرهم باقون في وجدان كل من حمل في قلبه شيئًا من الرحمة، وفي ذاكرة كل من عرف أن بعض الخسارات لا تُرى… لكنها لا تُنسى.
إن كانت الحرب قد سلبتهم الأرض..فلا تسلبوا منهم الذاكرة…
وإن كان المنفى قد نسيهم..فلتبقَ قلوبنا شاهدةً على أنهم كانوا هنا..
وكانوا بشرًا،
وكانوا نحن.